آنا بورشفسكايا* – (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) –
مع انطلاق المحادثات التحضيرية للسلام على قدم وساق ودخول الحرب في أوكرانيا عامها الرابع، يتعين على واشنطن أن تتبنى نهجاً براغماتياً في حشد الدعم العربي، وضمان ألا تؤدي نتائج الصراع إلى تعزيز نفوذ موسكو وإيران في الشرق الأوسط.
* * *
صادف يوم 24 شباط (فبراير) الذكرى السنوية الثالثة للغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، وهو ما تعتبره موسكو معركة عالمية ضد الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، في سياق صراع بين رؤى متباينة للنظام العالمي. ومن وجهة نظر روسيا، فإن النظام المفضل هو عالم مقسم بين القوى العظمى التي تكون لها حرية التصرف بحصانة في مناطق نفوذها.
مع أن الدول الغربية فرضت عقوبات باهظة على روسيا بسبب هذا العدوان غير المبرر، إلا أن هذه العقوبات لم تكن كافية. بسبب عدم التمكن من عزلها عالمياً تمكنت موسكو من تأمين موارد كافية من الخارج لمواصلة جهودها الحربية، والتي لعل من أبرزها تلك التي وفرتها منطقة الشرق الأوسط. وكانت روسيا قد عمدت في إطار سعيها إلى تعزيز مواردها ونفوذها في المنطقة إلى التقارب مع إيران ووكلائها، وعملت بنشاط على تأجيج الفوضى في مناطق مختلفة لإشغال الغرب وإضعاف موقفه. وفي المقابل، أبدى شركاء الولايات المتحدة الإقليميون تردداً- بل وحتى عدم تعاون- في تعاملهم مع هذه الحرب، حيث انصب تركيزهم على تحقيق مصالحهم الخاصة، ولم يقدموا سوى دعم محدود، إن وُجد.
من المؤكد أن قرار إدارة ترامب تركيز دبلوماسيتها الأساسية في قضية أوكرانيا على الشرق الأوسط يشير الى أهمية المنطقة بالنسبة للحرب وللأمن الأوروبي الأوسع نطاقًا. وفي يوم كتابة هذه السطور، التقى وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، بنظيره الروسي سيرغي لافروف في المملكة العربية السعودية، حيث يُتوقع أن يعقد الرئيس ترامب في نهاية المطاف أول اجتماع له مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن أوكرانيا. وفي الوقت نفسه، يخطط الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للقيام بجولة تشمل الرياض والإمارات العربية المتحدة وتركيا، على الرغم من أنه ما يزال من غير المؤكد ما إذا كانت واشنطن ستدعوه للمشاركة في اجتماعاتها الاستكشافية مع روسيا.
إدانة سطحية وأولويات متباينة
بشكل عام، لم تقدم حكومات الشرق الأوسط سوى إدانة سطحية للغزو الروسي في المحافل الدولية، مثل التصويت لصالح قرارات غير ملزمة في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي محافل دولية أخرى، كانت أكثر حذراً. فبعد الغزو مباشرةً، على سبيل المثال، أعربت جامعة الدول العربية عن “قلقها الشديد” إزاء الوضع ودعت إلى “الحوار والدبلوماسية”، من دون إدانة روسيا مباشرة. وبحلول تموز (يوليو) 2024، امتنعت دول إقليمية رئيسية مثل مصر والمملكة العربية السعودية والأردن والإمارات العربية المتحدة حتى عن التصويت على قرار الجمعية العامة التي طالب بانسحاب روسي غير مشروط من الأراضي الأوكرانية.
عندما أخفق الشركاء الشرق أوسطيون في دعم العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، لم تفرض الولايات المتحدة عقوبات ضدهم، كما أنهم لم يجدوا مصلحةً تُذكر في مواجهة موسكو بمفردهم. وفي لقاءاتهم المغلقة، شدد المسؤولون الإقليميون، مراراً وتكراراً، على رغبتهم في النأي بأنفسهم عن الصراع، مع الحفاظ على توازن في علاقاتهم الجيدة مع كل من واشنطن وروسيا، التي يرونها قوة عظمى إلى جانب الصين. وبالإضافة إلى تركيزهم على مصالحهم البراغماتية الخاصة، شعر بعض المسؤولين الإقليميين بأن واشنطن كانت متناقضة في مواقفها؛ إذ سارعت لمساعدة أوكرانيا، بينما لم تبذل الجهد نفسه لدعم شركائها في الشرق الأوسط في أوقات حاجتهم.
وفي الوقت نفسه، كان للرواية الروسية حول الحرب صدى واسع في العالم العربي، واستمر الاهتمام الإقليمي بالأسلحة الروسية، ولم يكن هناك ما يعوق شراء المزيد منها سوى العقوبات الأميركية والمخاوف بشأن قدرة موسكو على الوفاء بالتزاماتها في العقود المبرمة. ولم يمرّ الأداء العسكري الروسي الضعيف في أوكرانيا مرور الكرام في الشرق الأوسط، لكن الأسلحة التي كانت الأقل كفاءة- مثل الدبابات والمركبات القتالية المدرعة- ليست من بين الصادرات الروسية الأساسية للمنطقة. بدلاً من ذلك، يظهر العملاء في الشرق الأوسط اهتماماً أكبر بشراء الطائرات ومحركات الطائرات والصواريخ، التي أظهرت أداءً مقبولاً نسبياً في أوكرانيا.
ومع استمرار الحرب، أصبحت الدول العربية أكثر قلقاً بشأن التهديد الذي تشكله العلاقات الوطيدة بين روسيا وإيران. وبدلاً من تحدي موسكو على هذه الجبهة، اختارت هذه الدول اتباع سياسة المهادنة. ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنها تنظر إلى شراكاتها مع الولايات المتحدة باعتبارها غير مستقرة. وكان هذا النمط جلياً قبل سنوات من غزو أوكرانيا. فبعد أن تمكنت روسيا من ترسيخ نفوذها في سورية، على سبيل المثال، زادت المملكة العربية السعودية من انخراطها مع موسكو وعرضت عليها حوافز اقتصادية أملاً (عبثًا في نهاية المطاف) في إبعادها عن إيران.
الوساطة والمساعدة الإنسانية
كجزء من إستراتيجيتها المتمثلة في عدم الانحياز إلى أي طرف في الحرب، طرحت دول الخليج نفسها مرارا ًوتكراراً كوسيط بين موسكو وكييف، إذ أشرفت على عملية تبادل كبيرة للأسرى في أيلول (سبتمبر) 2022، وقدمت أكثر من 400 مليون دولار من المساعدات الإنسانية لأوكرانيا، واستضافت قمة سلام دولية في آب (أغسطس) 2023. وبالمثل، توسطت الإمارات العربية المتحدة في عملية تبادل 180 سجينًا في حزيران (يونيو) 2024، ثم تفاوضت على نقل 300 سجين آخر في نهاية العام. كما ساهمت قطر بأكثر من 100 مليون دولار كمساعدات إنسانية لأوكرانيا لدعم الصحة والتعليم وإزالة الألغام، علاوة على دعمها مؤخراً لبرنامج “حبوب من أوكرانيا” الذي يهدف إلى مساعدة الدول الأفريقية على الحصول على القمح والسلع الأخرى من كييف.
جعلت الحرب في أوكرانيا منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عرضة بشكل خاص لانعدام الأمن الغذائي. وبالتعاون مع الأمم المتحدة، ساعدت تركيا في التوسط في مبادرة البحر الأسود الهامة للحبوب في وقت مبكر من الصراع، والتي ساعدت في التخفيف من أزمة الغذاء العالمية الناتجة عن ذلك. ومع ذلك، انهار الاتفاق في تموز (يوليو) 2023 بعد أن انسحبت روسيا من الاتفاق. وغالباً ما استغل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مثل هذه الوساطة للعب دور حافظ على توازن دقيق بين أوكرانيا وروسيا وحلف شمال الأطلسي، مع سعيه في الوقت نفسه إلى تعزيز موقفه المحلي من خلال هذه الجهود.
التركيز على العلاقات
التجارية مع روسيا
بعيدًا عن فرض عقوبات على روسيا، عمل العالم العربي وتركيا على تعميق علاقاتهما التجارية مع موسكو على مدى السنوات الثلاث الماضية، مع تركيز خاص على السعودية والإمارات العربية المتحدة بوصفهما منتجتين رئيسيين للطاقة. وقد ساعد ذلك الكرملين على توليد إيرادات إضافية لتمويل حربه. وعلى سبيل المثال:
• برزت تركيا والإمارات العربية المتحدة كوجهتين رئيسيتين للأوليغارشية الروسية التي تشملها العقوبات.
• استمرت التجارة بين روسيا وتركيا في النمو خلال الحرب، حيث أكد أردوغان من جديد التزامه بزيادة التجارة الثنائية من 55 مليار دولار إلى 100 مليار دولار.
• أفادت التقارير أن التجارة بين روسيا ومصر وصلت إلى مستوى قياسي جديد بلغ 8 مليارات دولار العام الماضي، بزيادة أكثر من الضعف من 2.9 مليار دولار في العام 2022.
• شهدت التجارة بين روسيا والإمارات العربية المتحدة نمواً كبيراً، حيث زادت بنحو ستة أضعاف خلال السنوات الخمس الماضية وفقًا للإحصاءات الرسمية الروسية. وبحلول أوائل العام 2023، قفزت الإمارات العربية المتحدة من المرتبة الحادية والأربعين إلى المرتبة الثامنة بين أسواق التصدير الروسية، حيث بلغ حجم التبادل التجاري 11.4 مليار دولار. وفي أواخر العام الماضي، أشاد الرئيس بوتين شخصياً بهذا النمو، بينما أعلن المسؤول الرفيع ميخائيل إيفانوف أن الإمارات العربية المتحدة هي أكبر شريك تجاري لروسيا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا سيما في قطاع الطاقة. وأثارت تجارة الإمارات في السلع ذات الاستخدام المزدوج، التي تدعم القاعدة الصناعية الدفاعية الروسية، مثل رقائق الحاسوب والإلكترونيات وغيرها من المنتجات الخاضعة للعقوبات، قلقاً خاصاً لدى الغرب. وفي كانون الأول (ديسمبر)، وضعت أبو ظبي اللمسات الأخيرة على اتفاقية اقتصادية مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي تقوده روسيا، مما يشير إلى تعاون تجاري أعمق على المستوى الإستراتيجي.
• ساهمت المملكة العربية السعودية في تقويض العقوبات الغربية بشكل غير مباشر من خلال التنسيق مع روسيا في قضايا النفط، بما في ذلك خفض الإنتاج الذي أبقى أسعار النفط مرتفعة ووفر إيرادات إضافية لآلة الحرب الروسية.
توصيات سياسية
لا شك في أن رغبة الرئيس ترامب في إنهاء الحرب الأوكرانية والجهود الاستباقية التي تبذلها إدارته لتسريع هذه العملية جديرة بالثناء. ومع ذلك، فإن الطريقة التي ستنتهي بها الحرب سيكون لها تأثير مباشر على مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، من بين عواقب أخرى. فإذا خرجت روسيا منتصرة، ستتضاءل مصداقية الولايات المتحدة وقيادتها العالمية، وسيكون لدى القادة الإقليميين حافز إضافي للتودد إلى موسكو باعتبارها الشريك الأكثر موثوقية. كما سيكون لدى بوتين أيضاً المزيد من الوقت والموارد لتكريسها للشرق الأوسط- بما في ذلك شحنات الأسلحة- بالإضافة إلى المزيد من الوسائل لتقويض المصالح الأميركية هناك. ونظراً لأن حشد الدعم الإقليمي لأوكرانيا في مواجهة موسكو كان مهمة صعبة، ينبغي على واشنطن التركيز على المصالح البراغماتية المشتركة عند التحدث مع الشركاء حول الجهود المبذولة لتفادي أسوأ النتائج المترتبة على انتصار روسي.
على سبيل المثال، قد يُضعف انتصار روسيا موقف الولايات المتحدة في أي مفاوضات نووية مستقبلية مع إيران، على الرغم من أن قدرات طهران على استعراض القوة تراجعت بشكل كبير خلال العام الماضي. وللمضي قدماً، يتعين على واشنطن أن تدرك أن موسكو وطهران تشكلان كتلة إستراتيجية واحدة- فإذا تم تعزيز نفوذ أي منهما، فإن ذلك سيعزز نفوذ الأخرى أيضًا. وفى حين شكل سقوط نظام الأسد في سورية فشلاً ذريعا لكليهما، إلا أن العلاقة بين إيران وروسيا تتجاوز الآن تلك الجبهة. ومن المؤكد أن بعض الاحتكاكات ما تزال بارزة، كما رأينا في خطاب سُرِّب مؤخراً لضابط عسكري إيراني رفيع المستوى، بهروز إثباتي، يتهم فيه روسيا بالضلوع في انهيار سورية. غير أن موسكو وطهران وقّعتا أيضاً معاهدة شراكة إستراتيجية شاملة الشهر الماضي تشمل تعزيز التعاون الدفاعي بينهما.
يجب على واشنطن أن تشدد على هذه النقاط المرتبطة بإيران مع شركائها. كما يجب أن تستفيد من الفرصة الراهنة للانخراط في سورية ما بعد الأسد ومنع عودة روسيا إلى الواجهة هناك، خاصة وأن موسكو لم تخرج من اللعبة بعد وما تزال لديها أوراق لتلعبها في دمشق. ومن شأن التحرك الأميركي في سورية أن يبعث برسالة إلى جميع أنحاء المنطقة مفادها أن موسكو ليست الشريك الموثوق الذي تدّعيه، مؤكداً على الدرس المستفاد من تخلي بوتين عن بشار الأسد. وعلى الرغم من أن حروب ترامب التجارية الأخيرة وحالة عدم اليقين الاقتصادي المستمرة قد تعطي الشركاء الإقليميين أسباباً أخرى غير مقصودة للتقرب من روسيا (والصين)، إلا أن أهم ما يمكن للولايات المتحدة القيام به هو ضمان فوز أوكرانيا.
والأهم من ذلك، يجب أن يعترف المسؤولون الأميركيون بأنه لا يمكن إعلان مثل هذا النصر- ناهيك عن تحقيقه- من دون حماية أمن أوكرانيا وأوروبا. وهذا يعني إثبات أن روسيا فشلت في إخضاع أوكرانيا، وأنها دفعت ثمناً باهظاً لغزوها. يتطلب الهدف الأول تهيئة الظروف الأمنية التي تضمن عدم قدرة روسيا على مهاجمة أوكرانيا مجددًا، وتمكين أوكرانيا من البقاء دولة قوية ومستقلة وديمقراطية. وحتى أكثر من مجرد الاستيلاء على الأراضي، تهدف موسكو إلى إبقاء أوكرانيا غير مستقرة وعرضة لنفوذها. ومع اقتراب موعد محادثات السلام، يقف النظام الإقليمي والعالمي عند مفترق طرق حاسم، ويتعين على المسؤولين الأميركيين أن يحددوا أولويات تفاوضهم وفقًا لذلك.
*آنا بورشفسكايا: زميلة أقدم في “برنامج مؤسسة دايين وغيلفورد غليزر حول منافسة القوى العظمى والشرق الأوسط” في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. تركز في عملها على السياسة الروسية في الشرق الأوسط، وتساهم أيضًا في شركة “أوكسفورد أناليتيكا” الاستشارية.