يبدو أن حماس لن ترفع الراية البيضاء حتى لو لم يبقَ في غزة أحد، إسرائيل، أيضاً، لن تقبل إلا بانتصار مطلق حتى لو استنزفتها الحرب، معادلة وقف الحرب، إذن، صعبة، لأن وصمة الاعتراف بالهزيمة غير واردة، وبالتالي فإن سباق مكاسرة الإرادات سيستمر.
إرادة المقاومة تستند إلى حقوق مشروعة، وإرث ديني، ودفاع عن الوجود، إرادة المحتل تستند، أيضا، إلى قوة مفرطة تحظى بتفويض من إدارة ترامب، وإلى نصوص دينية متطرفة، وإلى لعبة سياسية داخلية يرفض أقطابها الخروج بدون انتصار عسكري، وأثمان سياسية كبيرة.
لا يوجد مسطرة للنصر او الهزيمة، لكن يوجد انتصار بفارق الأهداف، إسرائيل تمكنت خلال الـ15 شهراً من إبادة غزة، وتقطيع أذرع إيران، وإضعاف ساحات المقاومة وتحييدها، تمكنت، أيضا، من فرض معادلات جديدة في المنطقة، أمنياً وسياسياً، وتكاد أن تتحول، أو تحولت فعلا، إلى « شرطي» أو قوة ضاربة في الشرق الاوسط، المقاومة، أيضا، هشّمت في 7 أكتوبر صورة إسرائيل، واستطاعت أن تصمد أمام جبروتها العسكري، وألحقت بها خسائر مادية ومعنوية، المقاومة، أيضا، لا يمكن استئصالها، فهي باقية ما بقي الاحتلال.
من سجّل أهدافا أكثر؟ لا يمكن، بالطبع، المقارنة بين دولة تمتلك أقوى الجيوش، وتحظى بدعم عالمي وتفويض أمريكي، وبين مقاومة محدودة الإمكانيات، معزولة عن أي دعم أو مساندة، لا يمكن، أيضا، انكار حجم الخسارات الكبيرة التي تكبدتها فصائل المقاومة، سواء من ناحية الأسلحة والإمكانيات العسكرية، أو من ناحية التدمير وعدد الشهداء والكوارث الإنسانية، ما يعني أن رفع سقف التوقعات او المطالبات من المقاومة (تحت بند الأمنيات والرغبات أو الدفاع عن الكرامة) بالاستمرار في الحرب، وتحمل المزيد من الإبادة، يبدو غير منطقي ولا إخلاقي، ولا يحمل أي وجاهة سياسية أو إنسانية.
أعرف، تماما، أن الكثيرين، وأنا منهم، سيستدعون حالة النظام العربي الذي خذل المقاومة، والمصير القادم للمنطقة الذي ستقرره إسرائيل ولن ينجو منه أحد، وربما يستدعي آخرون أزمة إسرائيل ونقاط ضعفها، ثم المقاومة كخيار وحيد لكبح مشروع تصفية القضية الفلسطينية، هذا كله مفهوم ومشروع، لكن الواقع يشير إلى حقائق أخرى لا يمكن إنكارها، أهمها : القضية الفلسطينية لم تعد أولوية، لا في العالم ولا عند معظم الدول العربية، كما ان الواقع الفلسطيني المنقسم أصبح عاجزا عن حملها، والأهم أن مشروع حرب إسرائيل الكبرى الذي يتبناه ترامب تجاوز فلسطين إلى المنطقة كلها، وعليه أصبح سؤال (كيف ننجو ) عنواناً للكثيرين في المنطقة، وهو سؤال مشروع في ظل واقع مأزوم.
كيف تفكر حماس للخروج من هذه الحرب أو وقفها، وهل بقي لديها ما يلزم من أوراق (غير 59 رهينة) للتفاوض عليها؟ ثم كيف تفكر تل أبيب لانتزاع انتصار كبير، يرد اليها اعتبارها ويدحض فكرة انكسار هيبتها وقوتها في 7 أكتوبر؟ الإجابات صعبة وتحتاج إلى نقاش طويل، لكن المؤكد أن حماس، ومعها المقاومة، ستظل تواجه حتى آخر رمق، ولن تتخلى عن سلاحها إلا إذا تم تجريدها منه بالقوة، كما أن إسرائيل لن توقف الحرب إلا إذا طوت صفحة الرهائن، ونزعت سلاح المقاومة، وأنهت وجودها في غزة، من ينتصر، إذن، إرادة القوة أم قوة الإرادة؟ أترك الإجابة للقارئ الكريم.
في موازاة ذلك، حرب إسرائيل على غزة ستبقى حلقة في سلسلة حلقات ممتدة، القادم القريب سيكون حسم ملف الضفة الفلسطينية، بعدها ترسيم حدود المواجهة مع إيران وما تبقى من اذرعها في المنطقة، وعندئذ ستتحرك واشنطن، في تقديري، لإصدار وعد ترامب الذي سيكون بمثابة وعد بلفور جديد لإعادة ترتيب خرائط النفوذ وربما الجغرافيا في الهلال الخصيب، هل سينجح هذا المشروع الكبير أم لا ؟ لا أدري، لكن المؤكد أننا أمام مرحلة قادمة مزدحمة بالأخطار والمفاجآت، والتحولات غير المسبوقة.