عروبة الإخباري – الدكتورة فلك مصطفى الرافعي –
“إصنعوا لآل جعفر طعاما إنهم قوم محزونون” “من هَدي النبوّة”
بهذه الفاتحة من الرحمات الإنسانية أبدأ حديثي ، ليس اعتراضا على عادات ، و ليس نقدا سلبيا لغاية النقد، و ربّما يقع كلامي موضع الهوى و القبول ، و قد يحصد إمتعاضا يسري كالنار في الهشيم ،،
إنما هي الدعوة لقراءة متأنية لثقافة العزاء في معظم تفاصيلها حتى نكون على مدى التفاتة عين من المصالحة ،و بداية من ” ورقة النعوة” …
ابدأ بنفسي ، فساعة رحيل سيّدي الوالد الذي لم يهبْ له الحكيم الخبير ذكورا ، تجرأتُ على تضمين ورق النعي إسمي و أسماء أخواتي ، الأمر الذي إعتبره يومها البعض أنني قد تجاوزت في صيغتي المتعارف عليه بإغفال اسماء الإناث ، و أنني قد قاربت الخطوط الحمراء و شرّعت ( العورة ) ، يومها اجبت الإعتراض بكلمة واحدة ، أنه في وفاة انثى يُكتب إسمها الثلاثي بكل فنون الخط العربي ، و هل العورة تقع في مواضيع و تُعفى من العيب في مواقع اخرى ؟؟؟ و كان لي ما أردت حتى صرنا نقرأ اليوم اسماء الزوجات و البنات و الحفيدات ، و كنت افهم خصوصية الأنثى في ماضي الزمن مما سمعت عن أدب النعيّ أن رجلا كان يطوف المدينة القديمة و يعلن إسم المتوفي الذكر دون نعيّ الانثى …
في مقلب آخر كارثي أننا مازلنا حتى اليوم نرتكب خطأُ تاريخياً في تحويل مفاهيم تنزيل القرآن و ترحيله من منهجية عمل للأحياء إلى نعيّ أموات ، فينطلق مكبّر للصوت من سيارة تطوف المدينة على إيقاع القراءة القرآنية ، و تحديداً بصوت المقرئ الشيخ ” عبد الباسط عبد الصمد ” ، و من يسمع قرآنا يُرتّل في الشارع يبادر إلى السؤال عن هوية المتوفي ، مع أن القرآن الكريم نزل ” لينذر من كان حيّاً” .. و كذا بسوء إستعمال الذكر الحكيم بقاعات مجالس العزاء و المنازل في أيام العزاء ، و لا تُراعى له ذمة بالصمت و الخشوع و التدبّر ، و الله سبحانه وتعالى يقول ” فإذا قُرأ القرآن الكريم فاستمعوا له و أنصتوا لعلّكم تُرحمون “, و لعلّكم تُرحمون ( بالإنصات و الإستماع ) … فماذا في الأحاديث الجانبية و اللّغو و الآيات تـرتّل ترتيلا ؟؟ حتى في حالات كثيرة ” سامحنا الله “صارت التلاوة بالمذياع أداة لرعب الأطفال الذين يشعرون أن حدثا جلل وقع .. و في بعض القرى ما زالت حتى اليوم عادة إطلاق الرصاص الحيّ إعلاما صريحا عن وفاة ما ، و هذه العادة قد تُفضي إلى ” وفايات ” مجانية ..
واذكر اننا في طرابلس قد تأخرنا كثيرا بإعتماد قاعات العزاء كموقع ملائم لتقبّل العزاء ، و قد سبقتنا طوائف و مذاهب كثيرة بإختيارها ،و لعلّنا آخر جغرافية تنازلنا عن دور البيت لصالح القاعات التي غزت مشكورة كل تنامي المدينة و إتساعها …
و في العودة لما جاء به المبعوث رحمة للعالمين و جاء الوصف بالأمر ” إصنعوا لآل جعفر طعاما إنهم قوم محزونون ” ، ففي ثقافة المزايدات إرهاق لأهل الميت لما تعارف عليه من أن آل الفقيد هم الذين يصنعون الطعام للأهل و المعارف إن إنتفى من يتطوّع لتقديم طعام أيام الحداد..فلنتصوّر عائلة متواضعة الدخل ، فتكاليف الدفن على الشريعة الإسلامية أيّ الإكتفاء بثلاثة أكفان للذكر ، و خمسة للأنثى بدلا عن الحرائر و (العزيز خام ) ، و مصاريف إكرام الميت لوحدها ” تكسر الظهر ” ، فكيف بتكاليف إطعام جيش من المعزّين ؟؟؟ فتتكسّر النصال على النصال في أدبيات الإرهاق عند المتنبي!! … و للإنصاف فقد علمت أن بعض أهالي القرى تتوافد على بيت أهل الميت فور معرفتهم و هم يحملون إليهم كل انواع المواد الغذائية ، و هنا إدراك لمضامين السُنّة المطهّرة ..
…و ثالثة الأثافي في ثقافة العزاء ما تعارف عليه القوم من إرتداء الملابس ” السوداء ” …
لا اعلم كيف سكنتنا هذه البدعة و من أين وفدت ؟؟ و لعلها من الغرب تحديدا ، حسب ما نشاهده بالأفلام ،و يضعون أوقاتاً محددة لخلع السواد بعد مرور سنة أو أكثر للزوجة و البنات ، و بعد حلول ” الأربعين ” للقريبات” ، و لم اجد او اسمع في التشريع الإسلامي أية إشارة لتلازم الموت مع لون الثياب !!..
دعوة للمصالحة مع التراث و الإرث التشريعي ، مصالحة و راحة لأهل العزاء ” إنهم قوم محزونون!! ” .