لا مزدوجين على جانبي الشطر الأول من عنوان موضوعنا اليوم، ولا ينحصر في خبر يعني الصحافيين في المقام الأول، ومن ثم لفيف من العاملين في مجال الدبلوماسية العامة وربما بعض المعنيين بالشؤون الأمريكية وسياسات أمريكا الخارجية.
لاعتبارات عدة لا أسمح لنفسي الخوض في قرار إغلاق «صوت أمريكا» و»الحرة» وقريبا «إن بي آر». ربما تلك الوسطى هي أكثر ما يعني منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المعروفة اختصارا ب «مينا» أو تراه ذلك الشرق الأوسط «الموسّع» الذي تزامن مع توجهات إدارات أمريكية سابقة بتغيير النظم وبناء الأمم!
تلك هي الميزة الرئيسية للإدارة الراهنة وعلى نحو أكثر التزاما بأجندتي «ماغا» اختصارا لشعار «لنجعل أمريكا عظيمة مجددا» و»أمريكا أولا». ارتبطت إذاعة «صوت أمريكا» -قبل أن تصير متعددة المنصات واللغات (الوطنية والإثنية وحتى المناطقية)- ارتبطت بمحاربة الشيوعية وتحدي «الستار الحديدي» الذي أقامه جوزيف ستالين الزعيم السوفيتي الأكثر دموية وقمعا في بلاده الاتحاد السوفييتي ومن دار في فلكه في الكتلة الشرقية، حلف وارسو، وجميع النظم والتنظيمات التي سارت على هديه أو بالأحرى بتعليماته وتمويله.
شبكة قناة «الحرة» الفضائية ومن قبلها راديو «سوا» وما انضوى تحت مظلة الوكالة الأمريكية للإعلام العالمي «يو إس أيه جي إم» من منصات، جميعها تبث للخارج، فبحسب القانون والثقافة الأمريكية لا يجوز استخدام «البروباغندا» داخل الولايات المتحدة، ولا على المواطنين الأمريكيين والمقيمين وحتى الزائرين لبلاد العم سام.
للخروج من هذا المأزق أو حل هذه المعضلة، لم تكن مهمة من يتم استقطابهم للعمل لصالح الوكالة أو أي من قنواتها القيام ب «بروباغندا» بمعناها السياسي أو الفكري السلبي أو العدائي، وإنما العكس تماما. تم التوكيد مرارا بأن «الخدمة المهنية» ما هي إلا مهمة نبيلة يخاطر الصحافيون بحياتهم لأدائها. وتم اختيار البث من داخل أمريكا لهذه الغاية حماية لهم من أي تأثير غير مهني من أي نظام أو تنظيم. وقد تزامنت عمليات تأسيس وبث إذاعة «سوا» وتلفزيون «الحرة» مع تداعيات اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر 2001 وحربي أفغانستان والعراق. الغاية كانت «كسب القلوب والعقول» في معركة محاربة الإرهاب والتطرف، ونشر قيم الديموقراطية والإنسانية، وتقديم الإعلام الحر كبديل عن التلقين والتحريض والتضليل الذي تنتهجه بعض النظم والتنظيمات. مهنيا، المعيار كان تقديم الخبر الصادق والدقيق والرأي الحر –»الرأي والرأي الآخر» بحسب الشعار الذي نحتته القامة الإعلامية الأردنية الكبيرة الأستاذ القدير جميل عازر. لم تكن دعاية سياسية «بروباغندا» لخداع الجماهير أو التلاعب بالوعي أو بحدود الدول، بل كانت بحسب أحد كبار المسؤولين «الصحافة المسؤولة المرتبطة بالمهمة». لذلك تحرص تلك المؤسسات الأمريكية -العامة والخاصة- على نشر ما يعرف بالمهمة «مِشِنْ» حتى تكون الأمور شفافة وبالتالي قابلة للمراقبة والمحاسبة من قبل مجلس إدارة يضم شخصيات من الحزبين الجمهوري والديموقراطي ويرأسه من يشغل حقيبة الخارجية عند بداية تأسيس «الحرة» قبل عقدين.
المسألة قد تبدو مالية بحتة، لكنها أكبر وأعمق وأكثر شمولا. ما يجري هو إعادة ضبط الموجة، التردد والصورة.. ما يجري هو إعادة تقديم صوت أمريكا وصورتها وفقا لما سبق ذكره، شعاري «ماغا» و»أمريكا أولا»..
للأسف باسم الوصول إلى الجميع، وعدم الاصطدام بمن يصنف بأنه صديق، والإصرار على التصادم مع من يصنف بأنه عدو، و»الحركشة» -حتى لا أستخدم مرادفتها بالعربية الفصحى- بمن اعتبروا في المنطقة الرمادية أولا، ومن ثم اتسعت لتشمل حتى أقرب الحلفاء. حينها بدأت الأصوات بالتعالي مسائلة: هل أضاع البعض البوصلة لدرجة التسبب بالإيذاء الذاتي، وليس فقط هدر دماء وتريليونات رافقت بعض الرؤى الخاصة بالسياستين الدفاعية والخارجية لأمريكا، هذه البلاد العظيمة القائمة على ركيزتي الحرية والعدالة للناس كافة؟
ما جري ويجري على الأقل حتى انتخابات التجديد النصفي للكونغرس أو ما تعرف بالانتخابات التمهيدية يستدعي التفكر والتدبر بما هو قادم، فكثير من القرارات الأمريكية تبدو محلية لكنها عالمية وتخصنا في الصميم، وفي القرارات الأخيرة يقال الكثير فيما يخص الإعلام، والقوة الناعمة وأشياء أخرى قد يسمح المقام ببحثها لاحقا.