عروبة الإخباري – طلال السكر –
في كل مرة تتحفنا الدكتورة فلك مصطفى الرافعي بمقال يلامس عمق الفكر والتاريخ، حاملةً مشعل الوعي الذي يُلقي الضوء على علاقةٍ أزلية بين التاريخ والجغرافيا، تلك العلاقة التي ما فتئت تتجلى في معالم الأرض وتضاريسها، لتكون الجغرافيا شاهدةً على أحداث التاريخ وتحولاته.
فما تكتب الدكتورة فلك، ليس مجرد سردٍ تاريخي أو تأملٍ جغرافي، بل هو مرآة تعكس التفاعل الأزلي بين الزمان والمكان، بين الماضي والحاضر، في صورة تنبض بالحياة والمعاني العميقة. فمن القلاع التي شهدت بطولات الأحرار، إلى الأنهار التي احتضنت مآسي الشعوب، ومن السرايا العثمانية التي أزيلت ظلماً، إلى المتاحف التي تحاصرها النفايات، يتجلى الصراع الأبدي بين من يسعى للحفاظ على التاريخ ومن يحاول طمسه.
إن المقال يُبرز، بأسلوبه الأدبي الرفيع، كيف يُعاد تشكيل التاريخ وفقاً لمصالح القوى المتعاقبة، وكيف تبقى الجغرافيا الشاهد الذي لا يموت، وإن تغيرت ملامحها بفعل البشر أو الزمن. فالتاريخ هو السرد، والجغرافيا هي المسرح، وبينهما تدور رحى الصراع الدائم بين الحقيقة والتزييف، بين الحفظ والاندثار.
وكم كان تعبير الدكتورة بليغًا حين وصفت التاريخ بأنه يخطب ودّ الجغرافيا، فالتاريخ، مهما تم تزويره أو تغييره، يبقى في حاجة إلى الجغرافيا لتثبيته في ذاكرة المكان. لكن، ويا للمفارقة، كم من مرة تم تطليق هذه العلاقة بفعل عبث الإنسان؟ كم من مرة شهدت أوطاننا محاولات لمحو الذاكرة الجماعية، سواء بالطمس المتعمد أو الإهمال المقصود؟
إن قراءة المقال تثير فينا شعورًا بالأسى حيال ما آلت إليه مدننا وتراثنا، لكنها أيضاً تبعث برسالة أمل وإصرار على ضرورة حماية هذا الإرث، لأنه ليس مجرد ماضٍ نقرأ عنه، بل هو حاضرٌ يتجسد في شوارعنا وأبنيتنا وترابنا، ومستقبلٌ يُصاغ من خلال وعينا بأهميته.
شكراً للدكتورة فلك مصطفى الرافعي، على مقالتها العميقة التي أعادت إحياء التساؤلات الكبرى حول علاقتنا بإرثنا، وحول مسؤوليتنا في حفظه من الاندثار والتشويه. فما بين التاريخ والجغرافيا، نحن السطر الذي لم يكتمل بعد، والحكاية التي لم تنتهِ فصولها.