عروبة الإخباري – الدكتورة فلك مصطفى الرافعي –
التاريخ و الجغرافيا في رِباط اسطوري، فمنذ بدء الخليقة و العقد بينهما موثق ّ في السماء و شهود غير مطلوب لإستثنائية الإرتباط ، و المهر ناتج الأحداث التاريخية على أرض الجغرافيا و ملكيتها . فكل الزمان تاريخ و كل المكان جغرافيا ، و كم هي مقهورة كل المطارح النادرة ،و كم نحن على خِفّة في مقابلتها … فالقلعة الحدث الأبرز في شهقة الرؤية ، نمرّ بها دون التحية أو الالتفات او استعادة المشهد الحديث الأول ، فعند الجدران المطلّة على نهر ابوعلي يحكي التاريخ أن اللون الأحمر صبغ تلك الأمكنة من سيل الدم لأبطال كافحوا عبر حبالهم للوصول إلى سطح القلعة ،و تاليا التوصل إلى فتح بواباتها العصيّة إيذانا بتحرير المدينة من موقع يُعتبر في العلم الحديث هو البلاغ رقم واحد بإنقلاب على الطغيان ..و كذا حيثية النهر الوديع الذي طغى لمرة واحدة بصخب القوة ، فعوقب لاحقا بسقفِ معظم المشهد النهري ليسقط في مربع درجة دنيا من تصنيف المساقط المائية، و عليه يكون باستضافة الساقية ، هذا النهر الذي لبس ثوب الحداد فإسود لونه حزنا على مكتبة طرابلس التي أُعدمت رميا و إغراقا من مستعمر في لجج النهر ، و كلاهما على ظلامة و جهالة ،غير أن التاريخ أخذ القسط الأوفر من التزوير و قلب الحقائق … فكم من القصص التاريخية أتى لاحقا من ينسفها من جذورها و يغيّر مسارها و سِمات أبطالها و أحيانا إلى نفي الحدث التاريخي من جذوره لتبقى الجغرافيا هي المكين ، و إن شاب المكان إختلافا كبيرا في الرؤية المعمارية , غير أن الأرض تبقى الحاضنة الأساس للجغرافيا ، فيقال مثلا هنا حدث كذا و كذا ، و من هنا مرّ فلان و فلان ، و تبقى للإنتماءات المتناقضة اللعب على حقيقة التاريخ …
جغرافيا السرايا القديمة ذات الطراز العثماني و التحفة المعمارية أتى من يُزيلها ، فظل المكان شاهدا على عبثية القرار ، و على مرور مئات السنين سيبقى من يقول هنا كانت السرايا و هذه صورها بتوقيع المصور المائي المرابط تحت أشجار العصافير في فيئها ، و يبقى التاريخ في محط التأويل من بناها و من أمر بهدمها و ما هي الظروف !! و هنا نلحظ التفاصيل و الشيطان كما يُقال يسكن في التفاصيل .. كذلك لكل موقع اثري في المدينة تاريخه و الصامد من قاوم الأيام و العوامل و الظواهر الطبيعية ليبقى فريسة الجهل و السرقة و تغييب مهارة الأنامل بحرفيتها الخارقة التي علاها خنجر تعاقب الفصول ، فاليد التي ترمّم غابت و المعوَل إستباح المكان .. عشرات من إرثنا الثقافي معرّضة للزوال لمحو تاريخ المدينة و ثقافتها ، و كل يوم يندثر مَعلمَا و يُسرق أثرا و يشوّه مجدا ….
هذه المدينة / المتحف / المنجم سوّروا تراثها بالقمامة ، فلا السائح يقربها و لا أهلها ينقذونها ،و قد حفلت كل كتب التاريخ و الجغرافيا بعشرات الغزوات و الاستعمار الذين هالهم غنى بلادنا ، فخرجوا يحملون كنوزا منها تزّين شوارع باريس بالمسلاّت الفرعونية ، و لندن بالتحف المسروقة ، و ها هي بلاد الأندلس و كامل بلاد ايبيريا اُُزيل عنها الطابع التاريخي ، و بقيت الجغرافيا بمعالمها و حضارتها تحكي بدون ألسن و تخاطب بدون تصريح ..و ها هي أميركا التي اكتشفها كولومبوس صدفة و هو يمنّي النفس أنه يفتح بقايا الهند الشاسعة هي العلامة التاريخية الوحيدة في سجلها ، أما سجلها الحقيقي فهي محميات نادرة من قبائل الهنود الحمر و بطولات الكاوبوي و شارة الشريف و اللغة مستعارة من بريطانيا التي استعمرتها ، و هي التي اشترت جسورا قديمة و إن كانت اليوم تمثّل أعلى مراتب المدنيّة ، فهي ما زالت خجلة لخلوها من الحضارة ، و إن كنا نفتقر لمواكبة المدنية ، فإننا ننعم بقمم الحضارة الآيلة للسقوط تحت معاول التغييب و السرقة …
… التاريخ يخطب ودّ الجغرافيا!! و كم وقع الطلاق بينهما بفعل إرادة من لا يعجبه التاريخ ، و نوايا من يحاولون تغيير معالم الجغرافيا ، فنحن بلا قضية غير أننا ولا ريب قضية العالم !!