عروبة الإخباري – طلال السكر –
لقد أبدعتِ، الدكتورة العلامة فلك مصطفى الرافعي، في رسم مشهد تاريخي يعيد إلى الأذهان تلك الحقبة التي كان فيها اللبنانيون أكثر وعياً بضرورة التكاتف والتلاحم، حين كانت الهوية الوطنية تتقدّم على أي اعتبارات أخرى، وحين كان التنوّع مدعاةً للوحدة لا للفرقة.
الدكتورة، فلك، هي نفسها التي تسير بثبات على نهج والدها، القاضي العلّامة مصطفى الرافعي، مستلهمةً منه روح البحث العميق، واستقراء التاريخ، واستنهاض الوعي الوطني في زمنٍ كاد فيه الانتماء للوطن أن يتراجع لصالح المصالح الفئوية والمذهبية.
وها أنتِ اليوم، بقلمك المتمكن ورؤيتك العميقة، تواصلين المسيرة الفكرية التي خطّها والدكِ القاضي العلّامة مصطفى الرافعي، الذي كان صوته عالياً في ميادين الحق، ومدرسته الفكرية قائمة على مبادئ العدل، والإنصاف، ووحدة الصف.
لقد استطاع قلم الدكتورة فلك مصطفى الرافعي، أن يحيي صفحات مضيئة من تاريخ لبنان، حين تلاقى المسلم والمسيحي على مشروع وطني جامع، وكاد المسلم يعتلي سدّة الرئاسة الأولى بدعم وإجماع الطوائف كافة، في مشهدٍ كان يمكن أن يكون نقطة تحوّل في تاريخ البلاد لولا أن القوى المستعمرة أبت إلا أن تفرض إرادتها، مكرّسة معادلات لم يكن للبنانيين فيها سوى دور المتلقّي.
وليس غريباً أن تكوني، ابنة العلّامة القاضي مصطفى الرافعي، الصوت الصادح اليوم بهذه الحقائق، التي كانت منذ الصغر تصغى لوالدها وتحفظ كلماته، وتدرك أن العلم والوعي بالتاريخ هما أساس بناء المستقبل. وها هو إرثه الفكري ينبض في كلماتها، وأنتِ تستحضرين مشهد العائلات اللبنانية التي كانت تتفرّع مذهبياً، لكنها لم تتفكك وطنياً، بل كانت تشكّل نسيجاً متكاملاً من العلاقات والمصاهرات والانتماء المشترك.
لكن، وكما تساءلتِ بمرارة: “شو اللي صار؟”، فإن الجواب مؤلم. لقد صار الوطن رهينة المصالح الضيقة، وغلبت المصلحة الخاصة على العامة، وتقدّمت الطائفة على الدولة، حتى أصبح العيش المشترك شعاراً يُرفع أكثر مما يُمارس. وتلك العصبيات التي كانت كامنة في زوايا التاريخ، خرجت اليوم من سباتها، مستعيدةً لغة التقسيم والتفرقة، بعد أن وجدت في الانقسامات الإقليمية والاصطفافات السياسية بيئةً خصبةً لنموها.
إن ما كتبتِه، الدكتورة فلك، ليس مجرّد مقال، بل هو شهادة تاريخية، وجرس إنذار، ودعوة صريحة إلى استعادة وعيٍ كاد أن يُطمس في زحمة المصالح والتحالفات المتغيّرة. وهو في جوهره امتدادٌ لما كان والدها العلّامة مصطفى الرافعي يردّده دائماً: “ربما سيأتي يوم تتذكرين فيه ما قلتُ”. وها هو ذلك اليوم قد جاء، وها أنتِ تحملين الأمانة الفكرية، فتخطّين الكلمات لا لتروي التاريخ فقط، بل لتدّقي ناقوس الخطر حتى لا نعيد الوقوع في الدوامة ذاتها.
فهل من يسمع؟
وهل من يستيقظ قبل أن يعيد التاريخ نفسه، لكن بصورة أكثر إيلاماً؟
تحية للدكتورة فلك مصطفى الرافعي، ولقلمها الذي يوقظ الضمائر، كما كان قلم والدكِ منارةً للحق والوعي والوطنية الصادقة.