عروبة الإخباري – د. فلك مصطفى الرافعي –
في العودة إلى الإضاءات الطاهرة في التعامل في الماضي ،انشأ المجتمع وهالمتصالح مع نفسه و مع غيره عادة السكبة بين اهالي الزقاق الواحد ، إذ تعمد إحدى السيدات إلى صنع قدرا من القمح او الحلوى او الطعام ، ترسل قصعة ملأى منه إلى جاراتها و خاصة الفقيرات ، و في نفس الوقت تصنع سيدات الخدور طعامهن و يرسلن بدورهن بعضا منها ، فتتنوع الاطباق على ” صينية القش ” او ” الطبلية ” و هي طاولة الطعام المتواضعة في الزمن المسكون بالوئام …
و بما ان العادة تستولد العادة فبات من المعروف و اللباقة و اللياقة ان ُيُرد الطبق و فيه طعام ، و قد قضت الفضيلة منع التعثّر و التحرّج لعدم ملائمة الموقف بالرد الجميل ، فتعمد الجارة في حركة لافتة و معبرة بوضع بعض الملح كدليل ان الممالحة قد حصلت ، ثم اجترحت إحدى السيدات بدائل عن الملح او السكر بتزيين الصحن بالورود و القراصيا و الياسمين من احواض منازل بيوت زمان …ذلك المجتمع الهادئ الآمن المطمئن عاش رغد الدنيا رغم قساوة المشارب و المعارج ،ناهيك عن موائد الموالد و المناسبات حيث تتساوى المقامات و تتعادل القامات ، و السيد خادم قومه في حفله لا يأبه إن قدم الشراب لمسكين ،بل يعتبر ذلك من التكريم ..
.و في مقاربة سريعة لمعاملة جيران ايامنا نجد الهول و التباعد حيث أن بناءً واحدا يضم عشرات العائلات لا يعرفون اسماء بعضهم البعض و لا يتزاورون و لا يتهادون ، و يكتفون إن التقوا مصادفة فتحية سلام باردة أو بإيماءة من رأس متعب ..
في مصداقية أهل الماضي ، تشكللت جيوش تحكمها المعرفة و الإيثار و الدفاع عن الأعراض ، فمنعت إقتراب موروثات حملتها رياح الفرقة و التشرذم ، و أسست مداميك لعيش مشترك بين الفوارق في الإمكانيات و التنوع في المذاهب ، فتسوّر شارع الكنائس بعقد من لؤلؤ المساجد ، و قامت المعابد المتسامحة بمجاورة الجوامع …
في تلك الأيام الخوالي ، نشأت إخوة الرضاعة مع حفظ موانع التزاوج بينها ، و انتفت اليوم هذه الإخوة ، فاللبن مستورد من ابقار هولندا و الدانمارك ، فلا إخوة بلبن من إبل و أنعام ..
عادة ” السكبة ” سكبت ذهبا مصهورا في بلاط دهاليز الحارات ، و زفت شوارعنا ” حين وجوده ” لا يحمل إلا رائحة القطران بعد أن هاجرت طيور الياسمين زوايا مشربيات بيوت الخير و اهل الخير .