عروبة الإخباري –
في تاريخ الأمم والشعوب، هناك أيامٌ تبقى محفورة في الذاكرة، تُشكّل محطات مفصلية تعكس إرادة الشعوب وتُعبر عن تطلعاتها نحو الاستقلال والحرية. ومن بين هذه الأيام الخالدة، يأتي الأول من آذار عام 1956، اليوم الذي أعلن فيه جلالة الملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه، قرار تعريب قيادة الجيش العربي الأردني، منهياً بذلك عقودًا من الهيمنة الأجنبية على المؤسسة العسكرية الأردنية، ومؤسسًا لمرحلة جديدة من الاستقلال الوطني الكامل.
خلفية القرار: من الاستقلال السياسي إلى الاستقلال العسكري
تأسس الجيش العربي الأردني عام 1921، وكانت قيادته منذ نشأته تحت إشراف ضباط بريطانيين، وعلى رأسهم الجنرال جون باغوت كلوب (كلوب باشا)، الذي شغل منصب القائد العام للجيش العربي لمدة تقارب 25 عامًا. وعلى الرغم من حصول الأردن على استقلاله السياسي عام 1946، إلا أن بقاء قيادة الجيش في يد البريطانيين كان يمثل قيدًا على القرار الوطني المستقل.
كان الملك الحسين، الذي تولى سلطاته الدستورية عام 1953، مدركًا تمامًا أن السيادة الوطنية لا تكتمل إلا عندما تكون قيادة الجيش بأيدي أبناء الوطن. ومع تصاعد الوعي القومي وتزايد الضغوط الشعبية بضرورة إنهاء النفوذ البريطاني على الجيش، جاء القرار الجريء في عام 1956 ليُجسد طموحات الأردنيين في التحرر الكامل.
إعلان القرار وردود الفعل
في الأول من آذار 1956، أعلن جلالة الملك الحسين قرار تعريب قيادة الجيش العربي في خطاب تاريخي وجهه إلى الأمة، حيث قال:
“أحييكم أينما كنتم وحيثما وجدتم، ضباطًا وحرسًا وجنودًا، وأزفّ إليكم بشرى تعريب قيادة جيشنا العربي، الذي نعتز به ونفاخر الدنيا بأمجاده وبطولاته.”
لقد كان لهذا القرار أثر بالغ في الأردن وخارجه، فقد مثّل ضربة قوية للنفوذ البريطاني في المنطقة، ورسّخ سيادة الدولة الأردنية على مؤسساتها العسكرية، ما جعله واحدًا من أهم القرارات الاستراتيجية في تاريخ المملكة.
أسباب اتخاذ القرار
تعزيز السيادة الوطنية
ظل الجيش العربي الأردني مرتبطًا إداريًا وعسكريًا بالقيادة البريطانية لفترة طويلة، ما جعل اتخاذ القرارات العسكرية يخضع للتوجيهات الأجنبية، وهو أمر كان يتعارض مع مفهوم الاستقلال الكامل.
التأثيرات القومية والاستقلالية
مع صعود المد القومي العربي في الخمسينيات، وتنامي الشعور بضرورة التخلص من الهيمنة الاستعمارية، أصبح مطلب تعريب قيادة الجيش ضرورة وطنية تواكب المرحلة التاريخية التي تمر بها الأمة العربية.
التحديات الإقليمية
كانت منطقة الشرق الأوسط تعيش ظروفًا سياسية حساسة، خاصة مع تصاعد الصراع العربي-الإسرائيلي ووجود قواعد عسكرية بريطانية في المنطقة. وكان من الضروري أن يكون القرار العسكري الأردني مستقلًا لحماية الأمن القومي.
رؤية الملك الحسين الثاقبة
كان الملك الحسين مدركًا أن بناء دولة قوية يتطلب جيشًا وطنيًا مستقلًا في قراراته، وهو ما دفعه لاتخاذ هذا القرار رغم كل الضغوط التي واجهها من بريطانيا.
الضغوط والتحديات التي واجهت القرار
لم يكن قرار التعريب خطوة سهلة، فقد واجه معارضة شديدة من بريطانيا التي رأت فيه تحديًا مباشرًا لنفوذها في الأردن والمنطقة. كما كانت هناك مخاوف من تداعيات القرار على العلاقات الأردنية-البريطانية، خاصة أن بريطانيا كانت تقدم مساعدات مالية وعسكرية للأردن.
إلا أن الملك الحسين أظهر شجاعة وإصرارًا، وعمل بحكمة على احتواء الموقف داخليًا وخارجيًا، مؤكدًا أن القرار نابع من **إرادة وطنية مستقلة** وليس موجّهًا ضد أي جهة بعينها.
آثار القرار على الأردن والمنطقة
توطيد الاستقلال الوطني
شكّل تعريب قيادة الجيش الخطوة النهائية نحو الاستقلال التام، حيث أصبحت جميع مؤسسات الدولة الأردنية تحت سيطرة القيادة الوطنية، مما عزّز سيادة الأردن.
تطوير القوات المسلحة الأردنية
بعد التعريب، بدأت مرحلة جديدة من بناء الجيش على أسس حديثة، حيث تولى الضباط الأردنيون مسؤولياتهم القيادية، وتم التركيز على التدريب والتحديث، ما جعل القوات المسلحة الأردنية من أقوى الجيوش العربية وأكثرها كفاءة.
تعزيز الهوية الوطنية
أعاد القرار الثقة للضباط والجنود الأردنيين، الذين أصبحوا مسؤولين بشكل كامل عن الدفاع عن وطنهم، مما عزّز الروح الوطنية والانتماء لدى أفراد الجيش والشعب.
انعكاسات على المستوى العربي
ألهم القرار الأردني العديد من الدول العربية التي كانت لا تزال تحت النفوذ الأجنبي، مما عزز موجة التحرر الوطني في المنطقة.
الجيش العربي الأردني بعد التعريب: مسيرة بناء وتطوير
بعد مرور عقود على قرار التعريب، أصبح الجيش العربي الأردني نموذجًا في الاحترافية والانضباط. وقد شهد تطورًا كبيرًا على صعيد التسليح والتدريب، كما لعب دورًا محوريًا في حفظ الأمن والاستقرار، ليس فقط داخل الأردن، بل أيضًا في عمليات حفظ السلام الدولية.
ومنذ ذلك الحين، شارك الجيش الأردني في العديد من المهام الوطنية والإقليمية والدولية، وساهم في حماية حدود المملكة، والتصدي للأخطار التي تواجه الأمن القومي، كما برز بدوره الإنساني في تقديم المساعدات وإغاثة الشعوب المنكوبة.
إرث القرار وإرادة الاستقلال
يُعتبر الأول من آذار 1956 يومًا مجيدًا في تاريخ الأردن، حيث جسّد قرار تعريب قيادة الجيش العربي شجاعة الملك الحسين وحكمته، وإصراره على تحقيق السيادة الوطنية الكاملة. لقد كان هذا القرار تتويجًا لمسيرة الاستقلال الأردني، وأسّس لجيش قوي قادر على حماية الوطن وصون مقدراته.
واليوم، لا يزال الجيش العربي الأردني يواصل مسيرته في ظل قيادة جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين، مستندًا إلى إرث من العزة والكرامة، ليبقى كما كان دائمًا، درع الوطن وسيفه، وحامي أمنه واستقراره.