عروبة الإخباري –
لم يعد هناك أيّ شك من أن الحياة أصبح لها وجهان، حياة واقعية حقيقية نعيشها كل يوم وحياة موازية افتراضية فيها من الحقيقة والوهم الكثير.
كل سلوكياتنا صارت افتراضية، البشر يفرحون بتدوينة على مواقع التواصل، يعلنون عن نجاح أو زواج أو طلاق، عن ختان مولود جديد أو دخول أحدهم إلى السجن وخروجه، حتى أمواتهم ينعونهم على السوشيال ميديا، وأحيانا يكتفون بالتعزية والتهنئة تعليقا على تدوينات أو عبر تدوينات على “حوائطهم”.
هوسهم بلغ حد استعراض مشاهد آبائهم الذين يحتضرون، أو زياراتهم لقبور أمهاتهم يوما أو يومين إثر الدفن، يستعرضون حتى أداءهم للشعائر الدينية كالعمرة والحج.
فما الذي حوّل حياتنا إلى مجموعة أفعال ومشاعر افتراضية؟ أذكر في الفترة ما بين 2009 و2015 ومع تزايد مستخدمي فيسبوك، أن استخدامنا له كان محدودا، نحن نقضي الوقت الأكبر في الحياة الواقعية ثم نرفّه عن أنفسنا بالافتراضي، اليوم انقلبت الآية.
يصف الطبيب النفسي الدكتور محمد طه هذا السلوك بالقول إن هؤلاء المستعرضين يعانون من نقص فادح في “هرمون شوفوني”، كل من يمارس هذه السلوكيات الغريبة يبحث عن أيّ فرصة كي يراه الآخر، إنه في لاوعيه طفل يبحث عن فرصة ليراه والداه، حتى وإن كانت الفرصة غريبة وخارج الحدود الأخلاقية والإنسانية.
يبدو أيضا أن العالم الافتراضي يمنح سكانه حرية بلا قيود. في هذا العالم تستطيع أن تكون كما تشاء: أديبا أو داعية أو فنانا أو ناقدا أو مؤرخا أو حتى طبيبا ومعالجا نفسيا وروحيا، يكفي أن تكدس معلومات كثيرة – قد يجمعها الذكاء الاصطناعي – فينبهر بك المتابعون وقد تشتري بعضهم بالترويج لتدويناتك، ثم ماذا؟ ثم ترى اهتماما وإقبالا من الكثيرين والمهتمين بما تقدمه من مشاركات، فتشعر بأنك شخص له قيمة وله متابعون وأصدقاء كثيرون، وله نقاد أيضا ومنافسون.
وفيما يبني البعض مجدا افتراضيا، يدمن الغالبية التعليق ووضع مختلف علامات التقييم، يدمنون هذا السلوك دون أن يعي الأكثرية بذلك، وتتحول حياتهم اليومية إلى ركض مستمر وراء متابعة الصفحات والفيديوهات والتعليق عليها، الحصيلة أن حياتهم الحقيقية تسلب منهم افتراضيا.
هذا ما يفسر سر توظيف فيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي جميعها لمختصين في علم الأعصاب وعلم النفس، إنهم يصممون تطبيقات تضمن لهم إدمان المستخدمين لها عبر التحكم في مشاعرهم ومنها مستويات إفراز الهرمونات في أجسامهم.
قرأت مرة تدوينة تقول “في العالم الافتراضي نحن لا نمشي بأقدامنا بل نمشي بقلوبنا وعقولنا وكم أرهقنا ذلك وأوصلنا إلى أماكن بعيدة جدا عـن الواقع”.
الحقيقة أننا فعلا نمشي بقلوبنا وعقولنا، لا فقط بتأثير هذه المواقع على هرموناتنا بل بتأثيرها على سلوكنا وعاداتنا، اليوم أصبحت العلاقات سريعة، تبدأ برسالة أو علامة إعجاب أو تعليق وتنتهي ببلوك (حظر)، أن تحظر أحدهم من صفحتك فأنت تخبره أنك تقطع علاقتك به وتنهيها.
وصلنا إلى أماكن بعيدة عن الواقع، صارت للبعض هويات لكل موقع، أنت على الإنستغرام لست نفسك على فيسبوك ولن تكون ذاتك على إكس أو تيك توك أو غيرها، عدا من يلتزمون بهوية رقمية واحدة.
والهوية الرقمية أو الوجود الرقمي أصبحت مجالا مهما، يدرس في الجامعات وتخصص له دورات تدريبية، كيف لا والجميع يسعى لاكتساب هوية رقمية وتأكيدها أيضا؟
الهوية الافتراضية صارت لدى الأكثرية أهم من هويتهم الحقيقية، يستعرضون ملامحها المنتقاة بدقة على المواقع، يخفون ما لا يعجبهم فيها، وبعضهم لا يخجل في استعراض مساوئه.
لا شيء يبدو حقيقيا، كل شيء تحوّل افتراضيا، إننا نفقد إنسانيتنا يوما تلو الآخر ونتحول إلى كائنات سجينة محبوسة بين أسوار افتراضية، حدودها الحقيقية هواتفنا، لكن حدودها الافتراضية تؤطر أعمارنا بالكامل.