عروبة الإخباري –
في الطبعة الثانية لمجموعتها القصصية “حياة أخرى لعمر مضى”، تخط الكاتبة والشاعرة التونسية ريم القمري أولى أعمالها السردية بعد ثلاث مجموعات شعرية، مقدمةً نصوصًا تلامس قضايا حساسة وتكشف خفايا المجتمع العربي. تتناولت المجموعة، موضوعات محورية مثل الإرهاب، استغلال الجسد، الحب، الخيانة، الهجرة السرية، والاضطرابات النفسية والجنسية، بطرح جريء لا يخشى الاقتراب من المناطق المحرمة.
وقد تميزت القمري بسرد متماسك، وأسلوب مشوق يحمل القارئ إلى عمق الشخصيات والأحداث، حيث يتحول الجسد إلى مساحة للصراع بين التسلط والتحرر. وتطرح القصص تساؤلات وجودية حول الهوية الفردية والاجتماعية، كاشفةً عن التناقضات التي يعيشها الإنسان العربي بين القيم والتقاليد والواقع المعاصر.
حياة أخرى لعمر مضى، مجموعة قصصية صدرت منها الطبعة الثانية، للكاتبة والشاعرة التونسية ريم القمري.
وتتألف المجموعة من 14 قصة مرتبة كما يلي: الجسد الماخور، الآلهة تشارك الأطفال لعبهم، شكراً للصور، حياة أخرى لعمر مضى، سباحة في البياض، وأعلق الملف نهائياً، هشاشة، قطار الأنفاق، البصل، زوار الليل، لا أحد ينجو من الحنين، سيدة الأسود، جثث وأشياح.
رؤية نقدية للمجموعة
تتميز هذه القصص بجرأتها في معالجة قضايا حساسة تمس الواقع العربي، مثل الإرهاب، وجهاد النكاح، وإشكاليات الجسد ثقافيًا واجتماعيًا، إلى جانب الحب، والخيانة بأبعادها النفسية والاجتماعية. استطاعت القمري عبر قلمها أن تلامس المسكوت عنه، وتعكس معاناة المرأة في ظل التسلط الذكوري، متأرجحة بين الخضوع والمقاومة، في صراع أزلي مستمر.
في هذه المجموعة، تنسج الكاتبة شخصياتها ضمن نسيج اجتماعي معقد، فتطرح تساؤلات حول مكانة المرأة داخل التنظيمات الإرهابية، مسلطة الضوء على استغلالها باسم الدين، إلى جانب التطرق لموضوع الشذوذ الجنسي والانحرافات النفسية المصاحبة له، في سياق مجتمعات مكبلة بالتقاليد والمحرمات. كما تتناول ظواهر اجتماعية مثل الهجرة السرية، وتجربة المرأة في مواجهتها، كسرًا لنمطية تحليل هذه القضية.
الأسلوب واللغة
تعتمد القمري على سرد متماسك ومتداخل، حيث تبدو القصص متباعدة في الظاهر لكنها تتحرك ضمن منظومة فكرية واحدة. يتجلى ذلك في أسلوبها المشوق، حيث تدمج الذاتي بالخيالي والواقعي بالرمزي، ما يجعل القارئ جزءًا من الأحداث، متقمصًا شخصياتها ومنغمسًا في مسيرها.
تكتب بلغة جريئة، تتجنب الابتذال رغم تناولها مواضيع حساسة، إذ تقدم مشاهد جريئة بوصف دقيق دون أن تفقد النص عمقه. الجنس في نصوصها ليس مجرد إثارة، بل يحمل أبعادًا درامية ونفسية عميقة، حيث يصبح الجسد ساحة للصراع بين الهيمنة والتحرر.
تظهر قوة القمري في تحويل القارئ إلى مشارك في النص، حيث ينشأ نوع من المغناطيسية بينه وبين القصص، فلا يلبث أن يعود إليها مجددًا بعد انتهائه من القراءة.
المرأة والجسد في السرد
تعكس القمري في قصصها صورة المرأة المقهورة والمستهلكة، لكنها في ذات الوقت تصور لحظات انتفاضها واستعادتها لذاتها، كما في “حياة أخرى لعمر مضى” حيث يتحول الجسد إلى طاقة إيجابية تتجاوز الألم. كما تتناول صورة الرجل في سياقات مختلفة، سواء كان خصمًا للمرأة أو شريكًا في الصراع الوجودي.
تمضي الكاتبة في كشف زيف العلاقات الاجتماعية، مثل الحب في العالم الافتراضي والخداع العاطفي، من خلال شخصيات تعكس أمراض المجتمع العربي. ورغم محلية الأحداث، فإن القصص تتجاوز حدود المجتمع التونسي لتعبر عن واقع عربي واسع بأزماته وتناقضاته.
حياة أخرى لعمر مضى: كتابة بلا حدود
تكتب ريم القمري بجرأة وصراحة نادرتين، متجاوزة المحرمات الأدبية، واضعةً القارئ أمام الواقع كما هو، بكل تناقضاته وقسوته. إن “حياة أخرى لعمر مضى” ليست مجرد مجموعة قصصية، بل نافذة على عالم مكشوف، حيث يلتقي الحب بالخيانة، والجسد بالروح، والواقع بالحلم. إنها تجربة أدبية تستحق القراءة، تسبر أغوار النفس والمجتمع، وتضيء عتمة المسكوت عنه بشجاعة الكاتبة ورؤيتها النقدية العميقة.