تُعدّ رواية “سنبلةُ قمحٍ في خيمةِ غجرٍ” (المعروفة أيضًا بعنوان في قلبي ملحد) العمل الروائي الأول للكاتبة الدكتورة دانييلا القرعان، بعد إسهاماتها بارزة في مجالات الصحة والقانون والسياسة. صدرت الطبعة الأولى من الرواية أواخر عام 2024 عن دار البديل للنشر والتوزيع. ومن اللحظة الأولى، يجد القارئ نفسه مستحضرًا إرث الروائيين الأوائل في العصر الحديث، إذ تسير الكاتبة على خطاهم، محافظةً على الذائقة الأدبية الراقية، مع الحرص على تبسيط العبارات التعبيرية، واستخدام التكرار المدروس للمترادفات، ما يجعل القراءة تجربة ممتعة خالية من الرتابة.
تميّزت الكاتبة باعتماد اللغة الفصحى المخففة، بعيدًا عن القوالب النمطية الشائعة في الروايات التقليدية، مثل انتصار الخير المطلق على الشر، أو حتمية انتهاء قصص الحب بالزواج. كما تجنّبت الانغماس في العبارات المبتذلة التي تفتقر إلى العمق الأدبي، وبدلًا من ذلك، اعتمدت أسلوب الحوار المكثف، متفوّقةً على نفسها في تقديم عمل يشكّل نواةً لمدرسة أدبية مستقلة. وبفضل خلفيتها الأكاديمية وبحوثها في الشؤون السياسية والقانونية والدولية، أبدعت في السرد والتعليق، ما أتاح لها صياغة حبكة متماسكة، وحوارات ثرية بالصور الجمالية، ناهيك عن قدرتها على استلهام الدراما العربية في بناء رواية حزينة تستمد جذورها من رحم الأمل.
تحمل الرواية بين طياتها قصة حب مأساوية جمعت بين عاشقين تعاهدا على الإخلاص، وعاشا تحت ظلال حبّ سامق، إلا أن التغيرات المتسارعة عكّرت صفو هذا المثال المثالي، لتؤكد أن السعادة الهانئة غالبًا ما تؤول إلى مأساة. وفي هذا السياق، تبرز فكرة الحرمان كمحور رئيسي في الرواية، حيث تجسّدها الكاتبة بأسماء متعددة وتطرحها من زوايا إنسانية متباينة، تشمل قضايا الميراث، زوجة الأب، تعدد الزوجات، غيرة النساء، عمالة الأطفال، التعليم في الخارج، اختلاف الأديان، الحياة الريفية، الترابط الأسري، الدافعية، الجريمة، وأخيرًا حياة الغجر ونمط عيشهم.
تسرد الرواية أحداثها عبر فصول متلاحقة تتخللها حوارات متشابكة، مستندةً إلى أسلوب البناء على النصوص الغائبة، حيث تصوغ الكاتبة رؤيتها الخاصة تجاه المجتمعات العاطفية. وفي كل محطة، تتجرّع البطلة مرارات الألم، ما يجعل الرواية شهادة على طبيعة الحب في عالم الغجر. وبرغم كل التحديات، تغرس الكاتبة بذور الأمل في نفوس القرّاء، وتعزز أثر الحوار الداخلي لدى الشخصيات، واعدةً بكشف المزيد من الحقائق في الجزء الثاني من الرواية.
أما بطلة الرواية، سنبلة (سمراء) ، فهي مزيج من الطفولة البريئة والأنوثة الجريحة، امرأة صغيرة تحمل ندوب الحياة على كتفيها، لكنها تأبى الانكسار. تواجه ظلم الأهل، فقدان البراءة، الحب المحرّم، وقيود المجتمع، لتصنع بيديها قدرها المختلف، وتتجاوز حدود المألوف في سرد حكايتها. تؤكد الرواية على خطيئة الحب المستحيل، الذي ينساب في مجرى الحياة الحزينة، فكيف يكون المصير حين يكون الحبيب ملحدًا متجولًا، غريبًا عن الاستقرار، وباحثًا دائمًا عن الحقيقة؟ إنها المأساة في أعمق تجلياتها، والحرمان في أقسى صوره.
ومع ذلك، لا تستسلم سنبلة للقدر، بل تحطّم قيود الزمن، وتعتصم بذاتها، متسلحةً بقوة الإرادة، لتصعد نحو شرفة الحياة رغم وعورة الطريق. تحمل رسالة كل امرأة مقهورة، لتنسج معهنّ قصة حرية، مجد، وكفاح. بأسلوبها الفريد، ترسم الكاتبة لوحتها الإبداعية بقلب نقي وريشة جريئة، مستلهمةً من نبع الإلهام والخصب، لتخلق مستقبلًا يتجاوز قسوة الواقع. لكن تبقى الحقيقة الأزلية: الحياة نادرًا ما تكون كما نحلم.