تحت عنوان «السينما الأردنية تحت المجهر»، اختار القائمون على الأيام، جملة من الأفلام والنتاجات السينمائية الأردنية المتنوعة هي: «ترويدة» لموني أبو سمرة، «إن شاء الله ولد» لأمجد الرشيد، «بنات عبدالرحمن» لزيد أبو حمدان»، «ذكرنا وأنثانا» لأحمد اليسير، «سكون» لدينا ناصر، «الحارة» لباسل غندور، «ذيب» لناجي أبو نوار، «البحر الأحمر يبكي» لفارس الرجوب، «الحرش» لفراس طيبة، «إن شاء الله استفدت» لمحمود المساد، و«فرحة» لدارين سلام.
سلطت غالبية هذه الأفلام الضوء على تلاوين المشهد السينمائي الأردني وسردياته الدرامية والجمالية، لدى مناقشتها لأحوال ومصائر أفراد وجماعات في أكثر من بيئة محلية وعربية وإنسانية، مثلما جرى تنظيم ندوة بموازاة العروض شارك فيها صنّاع أفلام ومدير عام الهيئة الملكية الأردنية للأفلام مهند البكري، تناولت الحياة السينمائية في الأردن، ورهانات استمرارها عبر تقديم تسهيلات تشجع الإنتاج لرفد عالم صناعة الأفلام، بأشكال جديدة من إبداعات الشباب الأردني.
فعلى مدى نصف قرن من الزمان، ظلت «أيام قرطاج السينمائية» منصة مرموقة لاكتشاف طاقات الإبداع في حقلي السينما العربية والإفريقية، مثلما نجحت إلى حد بعيد في إيجاد قاعدة عريضة من عشاق السينما وتحفيزهم على مواكبة عروض المهرجان داخل الصالات ومناقشة نواحيها الدرامية والسينمائية، وإثارة أسئلة الإعجاب والجدل مع صانعيها.
وفي هذا الصدد، رأى الرئيس الشرفي للمهرجان المخرج فريد بوغدير في الدورة فرصةً لتعزيز الإنجازات والمكاسب المحققة ومنصة دائمة لدعم أحلام وآمال صانعي أفلام المستقبل، في حين دعت المديرة الفنية للدورة لمياء بالقايد قيقة إلى «ضرورة التفكير في المسار الإبداعي ومدى تغلغله في سردية أصيلة، أكانت غارقة في الشخصية أم آتية من عمق جماعي، فريدة الكتابة أو معيارية الصنع، فالأهم أن هذا الجمهور الذي يجد في كل مرة ضالته في القاعات المظلمة، سيتمتع بحقه في مشروعية نقاش حر دون شعور بالغربة أو الوحشة».
خلال دورة هذا العام، بدا للمتابع أن الأيام آخذة في التوسع وهي تحتضن تجارب جديدة ومبتكرة غامرة وغير مسبوقة بهذا الألق والافتتان بالحرفية السمعية البصرية، المتناغمة في أشكال سردية متباينة مفعمة مع هموم وآمال الواقع المثقل بآلام الأزمات الصارخة في أكثر من بيئة عربية وإفريقية، مثل العنف الاجتماعي والاحتلال والهجرات القسرية والاستيطان والظلم الإنساني كما في فلسطين ولبنان والسودان واليمن وروندا والسنغال.
استهلت عروض الدورة بالفيلم الروائي الفلسطيني القصير «ما بعد» لمخرجته مها الحاج، وهو يروي حكاية زوجين داخل بيت في مزرعة، معالجاً موضوع الفقد والغياب والألم، بأسلوبية بديعة مليئة بالرؤى الإنسانية والجمالية المبتكرة، وبانت فيه تلك الحوارات البليغة على إيقاع تكوينات من ومضات الضوء والظلال وهطول المطر داخل فضاء مكاني محدود، وفيها يجري الكشف عن مأساة الزوجين الذين فقدا أطفالهما الخمسة جراء القصف الإسرائيلي. في النتيجة هو فيلم يسكن القلب والوجدان، وينهض على ضرورة تجاوز الألم النفسي والظهور كشجرة شامخة تؤشر على ال?قظة والصمود أمام جبروت الاحتلال وبراثن الهيمنة والتسلط والعدوان.
من داخل هذه الأجواء عرض المهرجان في قسم المسابقة الرسمية الفيلمَ الروائي الطويل «إلى عالم مجهول» للمخرج مهدي فليفل. يصوّر الفيلم الذي ظفر بجائزة التانيت الفضي، حالة شابين فلسطينيين تقطعت بهما السبل في أثينا بحثا عن وسيلة للوصول إلى المانيا، فقد ادخرا مبلغا من المال لقاء الحصول على جوازي سفر مزورين، لكن أحدهما ينفق المال على رفاهيته في الوقت الذي يأخذ فيه زميله الأمر على محمل يكوّن فيه مصيره. عالج فليفل سرديته بفطنة وسلاسة بدت فيه الكاميرا تغوص بدواخل الشخصيات كاشفة عن لحظات من التأمل والمناجاة مزنرة بأسئلة?الفقد والضياع بفعل المنافي والهجرات القسرية.
وحملت مسابقة الأيام جملة من الأفلام اللافتة التي اختيرت باعتناء لتتلاءم مع مسيرة المهرجان المديدة من بينها: الفيلم التونسي «الذراري الحمر» للمخرج لطفي عاشور الفائز بالتانيت الذهبي للدورة، ويتناول في رحلة درامية وجمالية داخل بيئة بسيطة بعيدة عن العاصمة، حكاية راعي غنم تجاوز صدمة قتل ابن عمه على يد إحدى الجماعات الإرهابية، ونأى فيه مخرجه عن الاحتكاك بالواقع السياسي بقدر ما التفت إلى أهمية تصوير انعكاسات التطرف على مصائر فتيان البلدة الريفية النائية وتحولاتهم النفسية.
وبرع المخرج عاشور في تقديم تكوينات بصرية فريدة للمكان ومكونات طبيعته القاسية، وهو ما شكل إضافة نوعية في تبيان وقع صدمة معاناة شخصية الفتى، وفي منح الأحداث المستوحاة من الجريمة التي شهدها الريف التونسي قبل سنوات، صدقية عن الآثار البليغة المثيرة للحيرة والقلق والكثير من الأسئلة التي تفاعل معها الحضور العريض. وأكثر ما يحسب للفيلم أنه اتجه نحو إبقاء الحادثة الحقيقية عالقة في الذاكرة، بعيدا عن تجسيد تفاصيلها الوحشية. هذا الإنجاز أعاد السينما التونسية إلى واجهة المشهد، لكونه أثرى صناعة الأفلام التونسية بطيف إبدا?ي جديد ومبتكر على الصعيدين الفكري والجمالي.
ومن تونس أيضا حضر فيلم «عايشة» لمهدي البرصاوي، وهو يتحدث عن فتاة تتجه من جنوب تونس نحو العاصمة بعد نجاتها من حادث حافلة. وقدمت المخرجة التونسية مريم جعبر بفيلمها المعنون «ماء العين» معالجة درامية حول التطرف من خلال حكاية أم تبالغ في حماية ابنها المتطرف العائد من سوريا بصحبة زوجته الحامل. وينطلق المخرج المصري خالد منصور بفيلمه «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو»، في مهمة البحث عن ملاذ لكلبه رامبو هربا من صاحب المنزل الذي يستأجره بعد تعرض الأخير لهجوم من الكلب، وخلال رحلته عبر القاهرة يواجه حسن مخاوفه الخاصة.
وتناول الفيلم الصومالي «القرية ما بعد الجنة» للمخرج موه أراوي، حكاية قرية صومالية حبلى بالأحداث الجسام عندما تسعى عائلة إلى لم شملها بفعل ما عانته البلدة من أوضاع عصيبة، لكن أهالي هذه البلدة الفقيرة لهم أحلامهم وتطلعاتهم الخاصة والدفينة، رغم ما يحيط بهم من عوائق وتعقيدات ومحاذير على أرض الواقع.
ومن دولة الرأس الأخضر الإفريقية، حضر فيلم «هانامي» الذي صورت مخرجته دينيس فرنانديز أحداثه في جزيرة بركانية عندما تخلت أم عن ابنتها وهي صغيرة لكونها مريضة، فيتم إرسالها إلى تلقي العلاج عند سفح البركان، وهناك تكتشف عالما معلقا بين الأحلام والوقائع الصعبة التي يتعايش معها الناس بصبر وتحدّ وأمل. ويعاين المخرج السنغالي مامادو ديا بفيلمه «ديمبا» استعدادات موظف بلدية لاستقبال قرار تقاعده بعد ثلاثين عاما من العمل في بلدية مدينته، مستعيدا جوانب من الأحداث العصيبة التي واجهته مثل ذكرى وفاة زوجته، عندها تأخذ حالته ال?قلية في التدهور إلى أن يستعيد شيئا من توازنه عندما جرئ توطيد علاقته بولده.
ومن نيجيريا، قدّم المخرج أوام أمكبا فيلم «موت رجل» حول كاتب إفريقي يعمل على التوسط بين أطراف نزاع في بلد إفريقي يواجه حربا أهلية، إلا أنه يجد نفسه سجينا في قبضة السلطات الحكوميةـ ثم يأخذ على عاتقه الانتقال إلى مدارات أخرى في هذا الصراع.
وضمّت المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية مجموعة من الأفلام اللافتة بموضوعاتها الجريئة وأساليبها البديعة على غرار: «الفيلم عمل فدائي» للفلسطيني كمال الجعفري، الذي يرصد باللقطات الفيلمية عمليات اقتحام الجيش الإسرائيلي لمركز الأبحاث الفلسطيني ونهب أرشيفه ومحتوياته إبان اجتياح إسرائيل للعاصمة اللبنانية عام 1982. ومن خلال أحداث الفيلم، يستكشف الجعفري بالصورة البصرية والسمعية آليات النهب وغايات الاحتلال من وراء اقتحام المؤسسة بغية طمس حقيقته وجبروته وطي هوية شعب يرزح تحت قوة نيرانه وغطرسته. وأتيح للمخرج أن يلتقط?الكثير من مواد فيلمه من داخل أرشيف الاحتلال، فنجح في توظيفها لسردية مناقضة أدان فيها عسف سردية الاحتلال.
“ارتداد» للموريتاني اتناغريست الأنصاري، «ندار ساجا واولو» للسنغالي عصمان ويليام مباي، «داهومي» للسنغالية ماهية ديوب، «وسنت ديووز» من توغو لتشدير ممايكا جويل.. أربعة أفلام إفريقية مفعمة بدلالات المكان والاختيارات الذكية لمفردات لغتها، فيها عمليات استقصاء وبحث متين في أمكنة مهجورة خلابة بتكويناتها الجمالية الآتية من مخلفات خطوط للسكك الحديدية أو عبر استدعاء الذاكرة عن موطن الأسلاف الراحلين، وهناك مما تبحث عنه الكاميرا على ضفاف نهر السنغال وهي تعاين جزيرة كانت مختبرا لفعل حضاري قبل أن يقوم المستعمر بتوظيفها ك?داة محطمة لآمال الناس هناك.
واشتمل قسم «تكريمات واحتفاءات» على التعريف بأفلام المخرج الجزائري مرزاق علواش ومسيرته في السينما، كما جرى الاحتفاء بالناقد السينمائي التونسي الراحل خميس الخياطي، بوصفه أحد أبرز نقاد السينما العربية، وعاشقا وشغوفا بالصورة وعوالم الفن السابع، وذلك منذ حقبة ستينيات العقد الماضي، عندما كان عضوا في الجامعة التونسية لنوادي السينما، ثم رحيله إلى فرنسا، وهناك أسس مجلة «السينما العربية»، إلى جانب الكتابة النقدية وتغطيات المهرجانات السينمائية العربية والعالمية في الصحف والمجلات الصادرة بالمهجر، كما تعاون مع مجموعة م? النقاد الفرنسيين والعرب في التعريف بنتاجات تيارات التجديد في السينما العربية، وظهر ذلك عبر إصداراته لجملة من المؤلفات النقدية التي تبحث في أسئلة وقضايا السينما العربية باللغتين العربية والفرنسية.
إلى جانب علواش والخياطي، كرّمت «أيام قرطاج السينمائية»، المخرج السنغالي أبابكر سامب مخارام، الذي يعتبر من أبرز رواد السينما في القارة الإفريقية، إذ قدم خلال مسيرته ثلاثة أفلام ما زالت عالقة في ذاكرة عشاق الفن السابع هي: «ولم يعد الثلج بعد الآن» (1965)، «كودو» (1971)، و«جوم» (1981)، الذي اختير في مسابقة أسبوع النقاد بمهرجان (كان) السينمائي، وفيها مجتمعةً يجري تصوير وقائع من تفاصيل الحياة اليومية الإفريقية التي تدفع بالكثير من البسطاء إلى الهجرة نحو أوروبا رغم ما يواجهونه هناك من تحديات جسام كالتفرقة العنصري? والاستغلال والظلم الإنساني، فضلا عن تركيز المخرج مخارام على إبراز أطياف من الذاكرة الآتية من الموروث الإفريقي الثرية بطقوسها المتنوعة كالوشم والأغنيات والموسيقى الشعبية، ومن محاولات البعض الانعتاق من طوق التقاليد القديمة السائدة في بيئتهم.