مطالبات النواب بإصدار عفو عام جديد تكشف عن غياب واضح للرؤية الاستراتيجية، وتبرز بشكل صارخ سيطرة النهج الشعبوي على عملية التشريع في الأردن، فهذه الدعوات، التي تأتي في ظل أزمات اقتصادية وتحديات مالية متزايدة، تمثل تناقضا صادما بين المسؤولية التشريعية المفترضة وبين سلوكيات تسعى لتحقيق مكاسب آنية على حساب الاستقرار المالي والاقتصادي للدولة.
لا شك في أن العفو العام فيما يتعلق بحرية الرأي والتعبير والحريات الإعلامية يمكن أن يُعتبر خطوة إيجابية لتعزيز الحريات العامة، لكن التوسع العشوائي في نطاق العفو ليشمل قضايا مالية وجنائية على نحو متكرر يخلق مشكلات هيكلية عميقة.
المطالبات النيابية، التي تأتي بعد إعادة تبويب الإعفاءات الطبية للنواب، وعدم قدرة الجهاز الحكومي على تلبية مطالب النواب بخصوص التوظيف، تُظهر غياب الرؤية الواضحة، وتُبرز تناقضًا واضحًا بين الدور التشريعي الذي يُفترض أن يعزز الاستقرار المالي والاقتصادي، وبين محاولات استغلال التشريع لأهداف آنية دون النظر إلى تداعياتها العميقة على المدى البعيد.
إصدار عفو عام جديد بعد أقل من عام على العفو السابق لا يمكن النظر إليه إلا كعبث سياسي واقتصادي، ويرسل رسالة سلبية للمجتمع مفادها أن العقوبات القانونية ليست سوى أوراق قابلة للتجاهل تحت ضغط الشعبوية، فهذا النهج يضعف سلطة الدولة، ويُحفز ارتكاب المزيد من المخالفات بحجة أن العقاب يمكن تجاوزه بسهولة.
من الناحية المالية، يمثل العفو العام كارثة مباشرة على إيرادات الدولة، فالغرامات والرسوم التي يتم إسقاطها بموجب العفو ليست مجرد أرقام صغيرة؛ بل هي جزء من نظام يدعم الخزينة العامة التي تعاني أصلاً من عجز مزمن. وعندما تسقط هذه الإيرادات، يُجبر الاقتصاد على مواجهة ضغوط جديدة، سواء من خلال زيادة الاقتراض أو تقليص النفقات الرأسمالية، وهذان الخياران يؤديان إلى تدهور ضعف النمو الاقتصادي وزيادة البطالة، مما يضعف ثقة المستثمرين المحليين والأجانب، ويقوض البيئة الاستثمارية في البلاد.
الأثر الأوسع للعفو العام يتعدى الجانب المالي ليشمل تقويض النظام القضائي وخلق حالة من الظلم الاجتماعي، فالعفو العام يُضعف مفهوم العدالة عندما يُسقط العقوبات عن المخالفين، بينما يظل الملتزمون بالقانون يتحملون تبعات احترامهم له، وهذه الديناميكية تخلق شعورا بالإجحاف بين فئات المجتمع، مما يؤدي إلى زيادة الاحتقان الاجتماعي، ويعوق الجهود المبذولة لتحقيق استقرار سياسي واقتصادي.
من جانب آخر، تسارع وتيرة إصدار العفو العام تؤثر على ثقة المستثمرين بالنظام القانوني والمؤسسات الاقتصادية، فأي تكرار للعفو يعزز صورة الدولة كبيئة غير مستقرة قانونيا، حيث يبدو تطبيق القانون مرهونا بالمصالح السياسية، وهذه الصورة تُثني المستثمرين عن ضخ رؤوس الأموال في الاقتصاد المحلي، وتُضعف فرص جذب الاستثمارات الأجنبية، وهو ما يُفاقم مشكلات البطالة، ويُبطئ وتيرة النمو الاقتصادي.
وبدلاً من الانجرار خلف السياسات الشعبوية التي تهدف إلى استرضاء القواعد الشعبية على حساب المصالح العامة، يجب على النواب تبني سياسات تشريعية تعزز الاستدامة المالية، وتُركز على تحسين الكفاءة الاقتصادية وزيادة الإيرادات بطرق مستدامة مثل توسيع القاعدة الضريبية، فلا يمكن للدولة أن تبني اقتصادا قويا ومستقرا دون الالتزام الصارم بتطبيق القانون واحترام سيادته.
في نهاية المطاف، يبدو العفو العام وسيلة تهرب سهلة من مواجهة القضايا الجوهرية التي يعاني منها الاقتصاد والمجتمع، وإذا استمر هذا النهج، فإن تداعياته ستكون مدمرة، اقتصاديا واجتماعيا، حيث تُظهر المطالبات المتكررة للعفو العام أن الإصلاح الحقيقي ليس ضمن أولويات من يدعون تمثيل الشعب.