عروبة الإخباري –
الديار – ندى عبد الرزاق –
في زمنٍ أصبحت فيه الطفولة مرآة تُعكس عليها صراعات الكبار، تبدو براءة الأطفال وكأنها سلاحٌ في أيدي مَن يسعون الى تحقيق أجنداتهم. كيف يُسمح لأرواحٍ صغيرة، لم تكد تستوعب العالم بعد، أن تُقحم في عوالم السياسة والطائفية التي تشوّه أحلامهم قبل أن تتبلور؟
برنامج “ميني مافيا” لم يكن مجرد عرضٍ تلفزيوني، بل نافذة على واقعٍ مرير تتحول فيه شاشات الإعلام إلى ساحات تُنتهك فيها حقوق الطفولة. فقد جرى التلاعب بمشاعرهم وخطوط تفكيرهم تحت ستار تسليط الضوء على تأثيرات البيئة الاجتماعية والسياسية.
“الشؤون” تحذر!
وفي ضوء ما جرى، قال مصدر رفيع المستوى في وزارة الشؤون الاجتماعية لـ “الديار” ان “الوزير هيكتور حجار في موقفٍ واضح وصارم، أكد في بيان أن “ما حدث يمثل خرقاً فاضحاً للقوانين والأعراف التي تحمي الطفولة”. وشدد على “أن برامج كهذه تُعرّض الأطفال للأذى النفسي والعاطفي”، مُشيراً إلى أن وزارة الشؤون الاجتماعية “تلتزم بما تمليه اتفاقية حقوق الطفل التي صادقت عليها الدولة اللبنانية، وترفض أي استغلال للطفولة في سياقات سياسية لا تتناسب مع أعمارهم”.
التراجع فضيلة!
ورغم اعتذار قناة “الجديد” عن الخطأ الذي وصفته بالإهمال الوظيفي، تبقى القضية أبعد من مجرد زلّة عابرة. إن ما حدث يكشف عن هشاشة الحماية الإعلامية للطفولة، ويفتح الباب للتساؤل: هل يكفي الاعتذار لتضميد جراح الطفولة التي تُنتهك؟ وهل يدرك المسؤولون أن البراءة ليست لوحة توظّف لتجميل مشاهد الانقسام؟
الطفولة يفترض أن تكون ملاذاً للأحلام، تتحول يوماً بعد يوم إلى ضحية لصراعاتٍ لا ناقة لها فيها ولا جمل.
لماذا لم يتم توقيف الحلقة؟
ولكن قد يتساءل أي فرد عادي، ليس محللا ولا مفكرا ولا ناقدا ولا أكاديميا، بل مواطنا بسيطاً أستمع إلى هذه الحلقة، وتابع الجدل الذي أُثير حولها: كيف يُعقل أن تُعرض حلقة تحتوي على مشاهد “حساسة”، إذا كان قد جرى حذفها مسبقًا خلال عملية المونتاج؟ وإذا كانت تلك المشاهد تُعتبر غير لائقة للعرض، فلماذا لم يتم توقيف الحلقة فورا أثناء بثها على الهواء؟
في موازاة ذلك، يأتي تصريحٌ مستجد يُثير مزيدا من الاستغراب والتكهنات، حيث أكدت مصادر من “الجديد” لـ “الديار” أن الحلقة لم تكن إنتاجا حصريا للقناة، بل جاءت بالتعاون مع تلفزيون آخر. هذه التبريرات قد يراها المواطن البسيط غير مقصودة، ولكنها في الوقت ذاته قد تُفسَّر على أنها سقطة مهنية وإعلامية للمحطة، حيث تُطرح علامات استفهام حول غياب الرقابة الدقيقة، وكيف يُترك لمثل هذه الأخطاء أن تتسلل إلى المحتوى، خاصة عندما يتعلق الأمر بأطفال وقاصرين.
رسالة “الاتحاد مثل قلتها”… هل كانت نافعة!
من جانبها، اكتفت رئيسة “الاتحاد لحماية الأحداث” السيدة أميرة سكر، بالتعليق لـ “الديار” عبر الرسالة التي أُرسلها الاتحاد إلى وزير الإعلام اللبناني زياد مكاري، وجاء فيها: “إلى متى يتم استغلال الأطفال وزجهم في مواد إعلامية، وتعريضهم للخطر من قبل الإعلام اللبناني؟ إلى متى سيبقى الإعلام اللبناني مخترقًا للقوانين ومحرضا على الفتن بامتياز؟ وهذه المرة الطفولة في المقدمة.وقد تواصل معنا معالي الوزير مشكورا، ألف شكر لمعالي وزير الإعلام الذي تحرك بسرعة مستجيباً لنداء “اتحاد حماية الأحداث”، من خلال التواصل مع المحطة لحذف فيديوهات حلقة “ميني مافيا” التي استضافت أطفالًا يمثلون الأحزاب اللبنانية، وشكلت جدلا واسعا حول التعرض لخصوصية الأطفال وبث التحريض وإثارة الفتن”.
في التربية والمجتمع.. الاهل هم المدماك الأساسي
من جهتها، توضح الاختصاصية النفسانية والاجتماعية الدكتورة غنوة يونس لـ “الديار” أن “إشراك الأطفال في برامج حوارية سياسية واجتماعية تتناول قضايا تتجاوز حدود أعمارهم ومعرفتهم، ظاهرة تثير القلق بين الأهل والمجتمع. هذه الحالة لا تنفصل عن استغلال الأطفال لتحقيق نسب مشاهدة أعلى وجذب الجمهور، دون مراعاة التأثيرات النفسية والاجتماعية الخطرة التي قد تُخلّفها هذه البرامج على الأطفال”.
وتستكمل قائلة: “عندما يُعرّض الطفل لمواضيع مثل السياسة والمقاومة وحمل السلاح والقتل، يبدأ بفقدان ارتباطه الطبيعي بمرحلة الطفولة، حيث يُفترض أن يعيش في عالم مليء بالألعاب والتعليم والخيال”.
وتضيف ” تخلق هذه الامور حالة من التوتر والخوف المزمن، الحديث عن الحرب والشهادة يزرعان الخوف والقلق، وقد يؤديان إلى اضطرابات نفسية مثل التوتر واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، مما يجعل الأطفال أكثر عرضة للجزع وتحميلاً لهواجس تفوق أعمارهم وقدرتهم على الاستيعاب”.
وتتابع “كما تولّد هذه النقاشات نمواً مبكراً غير صحي، إذ يُجبر الطفل على تبني مفاهيم وآراء لا تتناسب مع مستواه العقلي والعاطفي. وهنا يتأثر الطفل ببيئته وعائلته ويتبنى مواقفهم السياسية”. وتستطرد”إضافة إلى ذلك، تسرق البراءة. فعندما يُرغم الأطفال على مناقشة قضايا الكبار، يتعرضون لضغط نفسي يفقدهم عفويتهم الطبيعية، ويجعلهم يظهرون كأنهم كبار في هيئة أطفال”.
وعن النتائج المترتبة تقول: “من بين الانعكاسات الاجتماعية لهذه الواقعة، فقدان الهوية الطفولية، حيث يتحول الطفل إلى نسخة “مصغرة” عن الكبار، مما يجعله يفقد هويته كطفل”. وتردف “أيضاً يتعرضون للانتقاد المجتمعي، اذ ان مشاركته في مسائل مثيرة للجدل تجعله عرضة للانتقاد أو حتى التنمر أو الشهرة، وهذا يفتح آفاقًا غير محدودة ومخيفة إذا لم تكن هناك ضوابط معينة وصحية. وقد يؤدي ذلك أيضا إلى تشكيل توجهات سياسية واجتماعية مبكرة، مما قد يسبب انقساما فكريا أو انحيازا يؤثر في نموه الاجتماعي”.
وتضيف “للأسف، هناك ضعف واضح في تطبيق القوانين التي تحمي الأطفال من الاستغلال الإعلامي، اذ ينص قانون حماية الطفل في لبنان على حمايتهم من أي شكل من أشكال العنف أو الاستغلال، ولكن غالبا ما تبقى هذه التشريعات حبراً على ورق دون متابعة حقيقية أحيانا”.
ماذا عن دور الأهل والمجتمع؟ تجيب يونس “ينبغي أن يكونوا أكثر وعيا بما يتعرض له أطفالهم، من خلال رفضهم حضورهم في برامج كهذه، وان يُطالبوا القنوات الإعلامية بالالتزام بالمعايير الأخلاقية لحماية هذه الفئة العمرية. كما يجب ان يساهموا في تعزيز مفاهيم الطفولة الطبيعية عبر الأنشطة المناسبة لأعمارهم، لأن دور الأطفال ليس في الانخراط أو مناقشة آرائهم السياسية، فهم ليسوا في المكان المناسب لذلك”.
وتتحدث عن توصيات للمؤسسات الإعلامية والتي تتجلى بما يلي:
– منع تعاون الأطفال في مناقشات سياسية أو طروحات تتعلق بالحروب والصراعات.
– تقديم برامج تعليمية وترفيهية تراعي المراحل العمرية للأطفال.
– الالتزام بالقوانين والمعايير الدولية لحماية الطفولة.
وتختم حديثها بالتنويه الى ان “إقحام الأطفال في برامج سياسية واجتماعية يفوق مستواهم العقلي والعاطفي، هو شكل من أشكال الانتهاك الصارخ لبراءتهم وحقوقهم. على الإعلام أن يتحمل مسؤولية أخلاقية تجاه هؤلاء، والامتناع عن انتهازهم لتحقيق أهداف تجارية. بناء على ما تقدم، لا يمكن بناء مجتمع صحي ومستقبل واعد، دون حماية الطفولة وصون حقوقها”.