يواجه الأكراد في سورية والمنطقة تحديات كبيرة بسبب التوازنات الجيوسياسية المعقدة والمصالح المتضاربة للقوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل. رغم مطالبهم الطويلة بالاستقلال أو الحكم الذاتي، فإنهم يعانون من ضغوط سياسية وعسكرية متزايدة، ويظل مصيرهم غير محدد في ظل التحولات الإقليمية والدولية.
***
ترى مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية أن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تشكل تهديداً وشيكاً للتوافق الثنائي الحزبي في قضايا السياسة الخارجية.
كان ينظر إلى سياسة جو بايدن باعتبارها عودة إلى النهج “الطبيعي” في السياسة الخارجية بعد الاضطرابات التي شهدتها إدارة ترامب الأولى. وكان بايدن قد انتقد الكرملين بشدة، وكان داعماً قوياً لإسرائيل. كما زاد الضغط على كل من الصين وكوريا الشمالية.
ولكن، في منطقة واحدة من العالم -منطقة حيوية بالنسبة لأمن أولئك الذين يعيشون فيها في الأقل- خالفت إدارة الرئيس بايدن تقليداً متبعاً في السياسة الخارجية الأميركية يعود تاريخه إلى العام 1919. ولم يتبق لعهد الرئيس بايدن في السلطة إلا أقل من ستة أسابيع في البيت الأبيض يمكنه خلالها أن يتخلى عن الأكراد.
منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، أطلق رؤساء الولايات المتحدة من الحزبين الرئيسين تصريحات تؤكد حقوق الأكراد في الحصول على دولة مستقلة أو في الأقل حكم ذاتي في المناطق التي يعيشون فيها بكثافة في دول مثل تركيا، وإيران، والعراق، وسورية.
وعلى غرار الشعب اليهودي قبل إقامة دولة إسرائيل في العام 1948، فإن الأكراد يشكلون مثالاً كلاسيكياً على “الأمة من دون دولة”.
قبل أكثر من قرن بقليل، وبفعل الحماسة التي أثارتها دعوة الرئيس الأميركي وودرو ويلسون إلى تقرير المصير عقب انهيار الإمبراطوريات الكبرى العام 1918، حمل وفد كردي من الإمبراطورية العثمانية المنهارة نسخة من نقاط ويلسون الـ14، وضعوها داخل مصحفهم، وانطلقوا مليئين بالأمل إلى مؤتمر باريس للسلام، لكن ما واجهوه كان خيبة أمل قاسية.
كان وزير خارجية ويلسون في حينه، روبرت لاسينغ، قد اعترف بعد ذلك أنه ورئيسه وقادة الحلفاء الآخرين، لم تكن لديهم أدنى فكرة عن عدد “الأقليات” العرقية والدينية المختلفة التي كانت تضمها شعوب كل من الإمبراطوريات العثمانية وإمبراطورية هابسبورغ والإمبراطورية الروسية، والذين طالبوا الرئيس ويلسون بتطبيق حق “تقرير المصير” لصالحهم.
كما يظهر بوضوح في سورية اليوم، تقدم العرب (السنة والشيعة) والأكراد، إضافة إلى التركمان والأرمن (الذين نجا منهم في العام 1915 على الأقل)، بمطالب متنافسة على الأراضي نفسها.
أما المشكلة الأكبر بالنسبة لواشنطن، في الماضي كما هي الحال الآن، فهي أن القوى الكبرى المتحالفة معها، التي لم تكن تكترث كثيراً بحقوق الأقليات ولا بمبدأ تقرير المصير، كانت تسعى إلى استخدام الأراضي المأهولة بالأكراد أو الجماعات الأخرى لتحقيق أهدافها الإمبريالية والاستراتيجية.
في العام 1919 كانت للبريطانيين والفرنسيين طموحاتهم الكبرى، كما هو الحال اليوم بالنسبة للأتراك والإسرائيليين، حيث وضعوا للسكان في سورية، في أفضل الأحوال، دوراً ثانوياً يخدم خططهم. وإذا كان نظام الأسد قد حكم يوماً ما دولة تعمل بكامل أجهزتها، على الرغم من كل مساوئها، فإن انهياره أفسح المجال لحقيقة قاسية مفادها أن سورية المرسومة على الخرائط والموجودة في مقعد الأمم المتحدة ليست سوى وهم.
كل الأنظار تتجه اليوم إلى دمشق ومسألة وصول جماعة “هيئة تحرير الشام” كحكام جدد، وربما جهاديين متجددين. ولكن في أنحاء سورية الأخرى، تعمل مجموعات مسلحة أخرى على ترسيخ وجودها كحكام محليين أو تخوض صراعات مع منافسين لتحقيق ذلك الهدف.
أدى تركيزنا على ما يجري فقط في العاصمة السورية إلى تشتيت أنظارنا عما يجري من حروب أهلية متصاعدة في أماكن أخرى من سورية، وكل الألعاب الجيوسياسية المختلفة التي تلعبها الجارتان الكبيرتان، إسرائيل وتركيا.
كان إضعاف إسرائيل لحليف الأسد “حزب الله” في الأسابيع التي سبقت الانتفاضة السورية الأخيرة، قد ترك إيران عاجزة عن التدخل. تلا ذلك قيام إسرائيل بتدمير إرث نظام الأسد العسكري. ولم تقتصر الضربات الجوية الضخمة التي نفذتها إسرائيل على مدى أيام على نزع سلاح سورية كدولة بالكامل، بل حرمت أيضاً أي جماعات معادية لليهود من امتلاك مزيج من الأسلحة الكيماوية المتبقية والذخائر العادية أو الصواريخ اللازمة لمهاجمة إسرائيل.
لكن الغارات الإسرائيلية أجهضت أيضاً فرصة جماعات مثل الأكراد لوراثة أنظمة الدفاع الجوي أو الأسلحة الأخرى التي كان يمكن أن تحميهم من عدوهم الرئيس، تركيا، وحلفائها المحليين من العرب والتركمان في شمال شرقي سورية.
تتمتع إسرائيل بعلاقات جيدة مع الأكراد الذين يحكمون مناطق في شمال العراق، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن كليهما يخشى تهديدات إيران المجاورة. لكن إسرائيل لا تثق أيضاً بالزعيم التركي رجب طيب أردوغان. وعلى عكس إسرائيل، تمتلك تركيا أقلية كردية كبيرة تفوق عدداً ما في المناطق الكردية في شمال العراق وسورية. وسيكون من شأن أي حكم ذاتي قابل للتطبيق على مناطق أكراد تركيا أن يهدد وحدة الأراضي التركية. والأمر نفسه قد ينطبق على كل من إيران ومن يحكم في بغداد أو دمشق.
منذ عهد الرئيسين الأميركيين ترومان وأيزنهاور، مروراً بعهد كل من الرئيس نيكسون، ووصولاً إلى عهد الرئيس بوش الابن، كثيراً ما ألمحت واشنطن إلى دعم حقوق الأكراد… قبل أن تتراجع عن ذلك.
خلال الحرب الباردة، كان بعض قادة الأكراد يوصمون بأنهم شيوعيون –و”أبو”، كما يعرف عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني التركي وفروعه السورية، كان كذلك بالنسبة إلى الأميركيين بالتأكيد. ثم لاحقاً، بعد انتهاء الحرب الباردة، لم يعد التركيز ينصب على اتهامهم بالشيوعية، وإنما أصبح ينظر إلى الأكراد كعائق أمام تنفيذ مخططات إعادة تقسيم المنطقة -أو حتى كعقبة أمام تحقيق “السلام” في المنطقة.
تقوم الولايات المتحدة بحماية الأكراد في الأجزاء الشمالية والشرقية من سورية منذ أن بلغت المعارك الطاحنة ضد تنظيم “داعش” ذروتها في العام 2017. وما تقوم به القوات الجوية الأميركية ونحو 900 جندي على الأرض السورية هو حماية الأكراد -ليس من “داعش” أو حتى من قوات الأسد، بل يحتاج الأكراد إلى رعاية أميركية تحميهم من حليف واشنطن في “الناتو”، تركيا.
وكان القتال الوحشي حول مدينة منبج قرب الحدود التركية وفي مناطق الجنوب الشرقي في دير الزور على نهر الفرات قد أدى إلى التضييق على ما تسمى “قوات سورية الديمقراطية” الكردية (قسد)، من قبل القوات المتحالفة مع تركيا، تزامناً مع سماح الجيش الأميركي لـ”هيئة تحرير الشام” بالاستيلاء على حقول للنفط في المنطقة، وحقول زراعية واسعة انتزعت السيطرة عليها من الأكراد.
وما يزال من غير المؤكد بعد ما إذا كانت واشنطن ستتخلى نهائياً عن الأكراد، أم أنها ستقوم بحماية إقليم صغير لهم.
إلا أن التودد الأميركي لـ”هيئة تحرير الشام” التي كانت في الماضي معادية للنموذج العلماني الذي يطرحه الأكراد -خاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة- يثير مخاوف من أن تتخلى واشنطن عنهم مرة أخرى لأسباب جيوسياسية براغماتية.
هل سيميل أحدهم على كتف جو بايدن قريباً ويقول له: “سيدي الرئيس، لقد وصلت في فترة رئاستك إلى المرحلة التي يمكنك فيها خيانة الأكراد”؟ أم أن بايدن سيكسر القالب ويغادر البيت الأبيض بوعد واحد على الأقل تم الوفاء به ولو جزئياً؟
أم أن مسألة أكراد سورية ستكون واحدة من المسائل العالقة على طاولة الرئيس دونالد ترامب؟
*مارك ألموند: مدير معهد أبحاث الأزمات، أكسفورد.