عروبة الإخباري
الخبر – ريتا بولس شهوان –
تحية لرمزي عساف وروك شلالا!
الأهم من مجرد تسليط الضوء الإعلامي على جرائم المافيا، ليكون لديك ما تجذب الحلوات والشباب اعلامياً٫ هو ألا ندع هذا العقل ينهي حياة من يتصدون له فعليا، ربما انتهت جزئيا! الا بفضل خيرة الاصدقاء العالميين. فالقضية ليست فقط في فضح المافيا، بل في حماية من يحاربونها في الخفاء، أولئك الذين يضعون حياتهم على المحك من أجل مجتمعٍ أكثر أمانًا. لطالما عانت البشرية من ويلات الجريمة، تلك الآفة التي تتجسد في صورٍ متعددة، بدءًا من السرقات الصغيرة وصولًا إلى الجرائم الوحشية كالاعتداء والقتل، ناهيك عن بؤر الفساد كالمخدرات والدعارة والقمار غير الشرعي، والتي غالبًا ما تكون جزءًا من منظومة المافيا. كثيرًا ما نركز على الأسباب الاجتماعية والاقتصادية للجريمة، ولكننا نغفل عن المحرك الأساسي لها: ذلك العقل الذي يحمل بذور العنف والانحراف. هذا العقل هو الذي يولد الأفعال الإجرامية، وهو الذي نرى تجسيدًا له في عالم المافيا.”
العقل الإجرامي: بؤرة الانحراف
“العقل الإجرامي ليس مجرد نتيجة للظروف الخارجية، بل هو نتاج لتركيبة داخلية معقدة تتشكل عبر تجارب حياتية مؤلمة ومفاهيم مغلوطة عن الذات والآخرين.” – د. سلمى الجابري، أخصائية علم النفس الجنائي.
هذا الاقتباس يلخص الفكرة الأساسية التي نطرحها، فالعقل الإجرامي لا يظهر فجأة، بل هو نتاج تراكمات نفسية واجتماعية. الشخص الذي يرتكب جريمة مثل الاغتصاب، أو السرقة، أو القتل، أو حتى قتل أفراد عائلته، أو انتهاك الخصوصية، أو التورط في المخدرات والدعارة والقمار غير الشرعي، وهي أنشطة شائعة في عالم المافيا، لا يفعل ذلك في فراغ. هناك خلل عميق في طريقة تفكيره وإدراكه للعالم من حوله، وهذا الخلل غالبًا ما يتجسد في آليات دفاعية مدمرة، من أبرزها إسقاط المسؤولية.
بل إن إسقاط المسؤولية قد يتطور إلى مستوى أخطر، حيث يدفع الفرد الذي تعرض لهذه الآلية، سواء كان ضحية أو مستخدمًا لها في استغلال البيئة الموبوءة، إلى الانتحار، وذلك بسبب الشعور المدمر بالذنب واليأس الذي يخلفه هذا الإسقاط، وهو ما قد نراه في بعض الحالات التي يتم فيها استغلال أفراد ضعفاء من قبل المافيا.
إسقاط المسؤولية: آلية دفاعية مدمرة ومحاولة لتحييد الجريمة
“المجرم غالبًا ما يسقط جريمته ونواياه الشريرة على الآخرين، خاصة أولئك الذين نشأوا في بيئة سليمة وآمنة. هذا الإسقاط هو محاولة للتخلص من الشعور بالذنب وتحويل اللوم إلى الضحية.” – د. أحمد الهاشمي، باحث في علم الاجتماع الجنائي.
هذا القول للدكتور الهاشمي يكشف عن آلية نفسية معقدة. إسقاط المسؤولية هو آلية دفاعية لا واعية يلجأ إليها الفرد عندما يكون غير قادر على مواجهة أفعاله أو أفكاره السلبية. في سياق الجريمة، يتجلى هذا الإسقاط في تحميل الآخرين مسؤولية الجرم الذي ارتكبه الشخص. فبدلًا من الاعتراف بالخطأ والشعور بالذنب، يقوم المجرم بإلقاء اللوم على الضحية أو على الظروف الخارجية. هذا الإسقاط ليس مجرد وسيلة للتخلص من الشعور بالذنب، بل هو أيضًا محاولة للحفاظ على صورة الذات وتبرير الفعل. فالمجرم الذي يرتكب جريمة، قد يرى نفسه بشكل إيجابي، ويعتبر أن ارتكاب الجريمة يتنافى مع هذه الصورة الذاتية. الإسقاط يساعده على الحفاظ على هذه الصورة، عن طريق إقناع نفسه بأن الجريمة كانت نتيجة لأفعال أو نوايا الضحية. وهذا التبرير يصبح أكثر وضوحًا في عالم المافيا، حيث يتم استغلال هذه الآلية لتبرير العنف والفساد.
لماذا يميل المجرمون إلى إسقاط مسؤوليتهم على الأشخاص الذين نشأوا في بيئات آمنة؟ قد يعود ذلك إلى الحسد، حيث يشعر المجرم بالحسد تجاه الأشخاص الذين عاشوا حياة طبيعية وسعيدة، فيبرر أفعاله من خلال تصوير هؤلاء الأشخاص على أنهم “محظوظون” أو “غير مستحقين” لحياتهم الآمنة. أيضًا، يساعد إسقاط اللوم على تهميش الضحايا وتصويرهم على أنهم جزء من “المشكلة” أو أنهم “يستحقون” ما حدث لهم. هذا الإسقاط، في جوهره، يمثل محاولة لـ “تحييد” الجريمة في نظر المجرم، وتقليل الشعور بالذنب أو الندم. فمن خلال إلقاء اللوم على الضحية أو الظروف الخارجية، يتمكن المجرم من تبرير أفعاله وتجنب العقاب الذاتي، وهو ما يبرز في أسلوب عمل المافيا التي غالبًا ما تصور ضحاياها على أنهم “مستحقون” للعنف والاستغلال.
العقل الإجرامي ومنظومة الردع المشوهة: ردود فعل مضادة للمكافحة في عالم المافيا
“العقل الإجرامي لا يكتفي بارتكاب الجريمة، بل يسعى أيضًا إلى حماية نفسه ومصالحه من خلال تشويه الحقائق ومهاجمة من يكشفه.” – د. ليلى المصري، باحثة في علم النفس الاجتماعي.
هذا الاقتباس يسلط الضوء على جانب آخر من العقلية الإجرامية، وهو جانب يتجسد بشكل خاص في عالم المافيا. فالعقل الذي يدير شبكات الدعارة، على سبيل المثال، قد يلجأ إلى الاغتصاب أو التحرش بمن يحاولون كشفه أو مكافحة نشاطه، في محاولة يائسة لإغلاق أفواههم وردعهم. وبالمثل، فإن أولئك الذين يديرون القمار غير الشرعي أو المخدرات، وهي أنشطة رئيسية للمنظمات المافياوية، قد يلجأون إلى التشهير أو التهديد لمن يحاولون محاربة هذا النشاط. هذه الأفعال ليست مجرد ردود فعل عشوائية، بل هي جزء من منظومة ردع اجتماعية مشوهة، تخلقها العقلية الإجرامية لتحمي مصالحها، وهو ما نراه بشكل واضح في أساليب المافيا التي تعتمد على العنف والترهيب لإسكات معارضيها. هذه المنظومة تعتمد على الأفكار النمطية، وتلعب على المخاوف والقلق المجتمعي، لتشويه صورة من يكشفون الفساد أو يكافحون الجريمة، وهذا ما تتقنه المافيا في تشويه صورة من يحاولون عرقلة أنشطتها. ولمواجهة هذه التحديات، يصبح من الضروري توفير برامج تدريبية وتعليمية شاملة، مثل دبلومات مكافحة التمييز التي تقدمها منظمات مثل “أريج”، والتي تساعد الأفراد على تطوير الوعي اللازم لتجنب الانخراط في هذه الأفكار النمطية أو الوقوع ضحية لها. بالإضافة إلى ذلك، يجب توفير برامج تدريبية تعزز الثقة بالنفس، وتساعد الأفراد على مواجهة الضغوط والتهديدات. وفي الحالات التي يكون فيها الفرد متورطًا في هذه البؤر الإجرامية، يصبح العلاج النفسي ضروريًا لإزالة الذنب الوهمي الذي يحدثه هذا التورط، ومساعدة الفرد على التحرر من هذه الدوامة واستعادة السيطرة على حياته، خاصة بالنسبة للأفراد الذين تورطوا في أنشطة المافيا.
صعود المجرمين في الدول الفاسدة: المافيا مثالًا صارخًا
“في الدول المنخورة بالفساد، غالبًا ما تجد الشريحة التي كانت تعمل في عالم اللاشرعية طريقها إلى السلطة والمراكز المرتبطة بالجريمة، مما يؤدي إلى تحول هذه الأنشطة من غير شرعية إلى شرعية بشكل مؤسسي.” – د. خالد الغانم، باحث في القانون الجنائي والإصلاح السياسي.
هذا الاقتباس يشير إلى واقع مرير في العديد من الدول، حيث تتغلغل الجريمة المنظمة في مؤسسات الدولة، وتصبح جزءًا لا يتجزأ من النظام السياسي والاقتصادي. ففي عالم المافيا، على سبيل المثال، غالبًا ما تصل هذه الشريحة من المجرمين إلى السلطة ومراكز النفوذ المرتبطة بهذه الجرائم، مستغلين الفساد المتفشي في الدولة. وبالتالي، ينتقلون من عالم اللاشرعية إلى عالم الشرعية، ولكن في الواقع، لا يزالون يمارسون نفس الأنشطة الإجرامية ولكن بغطاء قانوني أو مؤسسي. وهذا التحول هو أحد الأهداف الرئيسية للمنظمات المافياوية، وهو ما يفسر سعيها الدائم للتغلغل في مؤسسات الدولة.
أمثلة عالمية:
حالات اغتصاب الناشطات الحقوقيات: في بعض الدول، تعرضت ناشطات حقوقيات يعملن على مكافحة الدعارة أو العنف الجنسي إلى الاغتصاب أو التحرش كنوع من الترهيب، وهو ما قد تتبعه المنظمات المافياوية التي تدير هذه الأنشطة.
تهديد الصحفيين المكافحين للفساد: العديد من الصحفيين الذين يكشفون عن شبكات القمار غير الشرعي أو المخدرات تعرضوا للتهديد أو التشهير أو حتى القتل، وهو ما يمثل أسلوبًا شائعًا في عالم المافيا لإسكات الأصوات المعارضة.
تشويه سمعة المبلغين عن الفساد: غالبًا ما يتم تصوير المبلغين عن الفساد على أنهم “خونة” أو “مثيرو مشاكل” في محاولة لتقويض مصداقيتهم، وهو تكتيك تستخدمه المافيا لتقويض أي محاولة لكشف أنشطتها غير القانونية.
الحبس وإعادة التأهيل: ضرورة ملحة ومنظور متجدد مع استثناء محتمل في عالم المافيا
“المجرم الذي يحمل هذا النوع من العقلية لا يمكن أن يتعايش بسلام مع المجتمع الطبيعي. الحل ليس فقط في العقاب، بل في إعادة تأهيل شاملة تهدف إلى تغيير طريقة تفكيره وتصحيح مفاهيمه الخاطئة.” – منظمة حقوق الإنسان الدولية.
هذا الاقتباس يؤكد على أهمية إعادة التأهيل كجزء أساسي من التعامل مع المجرمين. فالحبس وحده لا يكفي، بل يجب أن يرافقه برنامج تأهيلي يهدف إلى معالجة جذور المشكلة في العقل الإجرامي. الهدف هو تحويل هذا الشخص من فرد يشكل خطرًا على المجتمع، إلى فرد منتج قادر على العيش بسلام واحترام للآخرين. إلا أن مكافحة الجريمة لا يجب أن تنحصر في افتراض أن نفس البؤرة التي أنتجت الجريمة الأولى ستكرر نفسها حتمًا، إلا إذا أراد طرف ثالث اعتماد نظرية الصراع للاستفادة. فنظرية الصراع ترى أن الجريمة هي نتاج للصراعات الطبقية والاجتماعية، وأن بعض الأطراف قد تستفيد من استمرار الجريمة لتعزيز مصالحها أو الحفاظ على نفوذها، وهو ما قد يفسر عدم جدوى إعادة التأهيل في عالم المافيا حيث تسعى المنظمات للحفاظ على الوضع الراهن. في هذه الحالة، قد لا يكون إعادة التأهيل هو الهدف، بل قد يكون الهدف هو استمرار الصراع واستغلال الجريمة. لكن في الحالات الطبيعية، يجب أن نؤمن بقدرة الفرد على التغيير والتطور، وإعادة التأهيل الناجحة يمكن أن تقود الفرد إلى التخلي عن أنماط التفكير الإجرامية بشكل كامل. يجب أن ننظر إلى كل حالة على حدة، مع التركيز على فهم الدوافع العميقة وراء الجريمة، وتقديم الدعم اللازم لتغيير مسار الفرد نحو الأفضل، مع الاعتراف بأن إعادة التأهيل قد لا تكون الحل الأمثل في بعض الحالات التي تتورط فيها المنظمات المافياوية.
إن فهم العلاقة بين العقل الإجرامي والجريمة، بما في ذلك آليات الدفاع المدمرة مثل إسقاط المسؤولية وتأثيرها المدمر الذي قد يصل إلى دفع الأفراد إلى الانتحار، وصعود المجرمين في الدول الفاسدة مع التركيز على عالم المافيا كنظام متكامل، ومنظومات الردع المشوهة التي تخلقها، والأهمية القصوى للتدريب والدعم النفسي، هو خطوة ضرورية نحو بناء مجتمع أكثر أمانًا. لا يمكننا أن نتعامل مع الجريمة كحادثة منفصلة، بل يجب أن ننظر إليها كناتج لتفكير منحرف يحتاج إلى معالجة جذرية. من هنا، يصبح الحبس وإعادة التأهيل ليسا مجرد إجراءات عقابية، بل هما أدوات ضرورية لتغيير العقلية الإجرامية وإعادة دمج المجرمين في المجتمع بشكل إيجابي. يجب أن نؤمن بقدرة الفرد على التغيير، وأن نركز جهودنا على توفير بيئة داعمة لإعادة التأهيل الفعالة، مع إدراك أن كل فرد لديه القدرة على تجاوز ماضيه وصنع مستقبل أفضل، مع الاعتراف أيضًا بالدور الذي يلعبه الفساد والمنظمات المافياوية في إدامة الجريمة.