ياعيل بيردا؛ وميرون رابابورت* – (هآرتس بالعربي)
يشكل الرفض أداة قوية جداً. والآن تتعالى أصوات بارزة في يسار الوسط اليهودي تدعو الجنود جهاراً إلى رفض تنفيذ أوامر التطهير العرقي في قطاع غزة.
* * *
تقوم إسرائيل بتنفيذ حملة تطهير عرقي في شمال قطاع غزة. وهي تفعل ذلك بواسطة التجويع، وتعطيل الخدمات الصحية، وقصف وتدمير المباني السكنية والمدارس التي لجأ إليها المهجرون. وقد أجبرت إسرائيل الغالبية الساحقة من السكان في مخيم جباليا للاجئين، وفي بيت حانون وفي بيت لاهيا، على الرحيل عن أماكن سكناهم. وليست لدى الدولة أي نية للسماح لهم بالعودة.
خلافاً لتغاضي غالبية الإسرائيليين عن جرائم الحرب التي تنفذها الدولة منذ بداية الحرب، ثمة ردود فعل مختلفة على التطهير العرقي في شمال قطاع غزة. خلال الشهر الأخير، ارتفعت أصوات بارزة من يسار الوسط اليهودي، من نائب رئيس “مجلس الأمن القومي” السابق، عران عتصيون، إلى الباحث في اليهودية تومر برسيكو، وكثيرين غيرهما، تدعو بصورة علنية إلى رفض تنفيذ أوامر الجيش بالتطهير العرقي. كما وقع حقوقيون بارزون، بمن فيهم بعض الذين قدموا المشورة لطاقم الدفاع عن إسرائيل في قضية اتهامها بتنفيذ إبادة شعب أمام “محكمة العدل الدولية” في لاهاي، على رسالة ضد التطهير العرقي الجاري في شمال قطاع غزة، والتهجير والمس بالمواطنين.
ما هو التفسير لهذا الفارق بين ردة الفعل على التطهير العرقي في شمال قطاع غزة وبين ردة الفعل (التي لم تكن) على جرائم الحرب التي نفذتها إسرائيل، والتي تشكل في نظر “محكمة العدل الدولية” في لاهاي احتمالاً معقولاً للإدانة بتنفيذ إبادة جماعية؟ هل هو الهدوء البيروقراطي؟ هل يتعلق بحقيقة أن التطهير العرقي هو، بشكل واضح، خطوة مخطط لها مسبقاً، نتيجة لـ”خطة الجنرالات”؟ أو ربما هو التوقيت -الإقرار بأن الجيش حقق، ظاهرياً، أهدافه في قطاع غزة، ولذلك لم يعد هناك هدف عسكري لعملية جباليا ومحيطها؟ أو لعل هذه معارضة تمثل غالبية عائلات المخطوفين لاستمرار الحرب، والاعتقاد بأن الضغط العسكري لن يؤدي إلى إطلاق سراح أحبائهم؟
ربما كانت صور آلاف السائرين بين الخرائب، ترافقهم الدبابات، قد ذكرت بمشاهد من الهولوكوست؛ وربما كان التطهير العرقي الذي تم تصويره يذكر أيضاً، بـ”الخطيئة الأولى” المتمثلة في النكبة، التي تطارد المجتمع اليهودي في إسرائيل، حيث ثمة فارق بين إنكار النكبة، وتبريرها، أو الادعاء بأنه لم يكن أمام اليهود خيار آخر، وبين رؤيتها تحدث أمام عينيك وأمام الكاميرات.
ربما يكون التفسير أكثر بساطة من كل هذا: إن إسرائيل لا تكلف نفسها حتى عناء نفي وإنكار أنها تتعمد تجويع سكان هذه المناطق. وقد سألت وكالة “الأسوشيتد برس” العميد إلعاد غورن، الذي يُعرَّف بأنه “رئيس الجهود الإنسانية المدنية في قطاع غزة” ضمن دائرة “منسق أنشطة الحكومة في المناطق”، عما إذا كان الجيش يمنع إدخال المساعدات الإنسانية إلى جباليا في شمال قطاع غزة، أجاب أن معظم السكان غادروا، ومن بقي منهم لديهم “ما يكفي من المساعدات” التي حصلوا عليها سابقاً. وفي بيت لاهيا وبيت حانون، حسب ما قال، ليس هناك سكان. وبذلك، يكون الموظف الرئيسي المسؤول عن “الجهود الإنسانية” في الجيش الإسرائيلي هو الذي يقود، فعلياً، عمليات التجويع والتهجير. وقال العميد إيتسيك كوهن، قائد الفرقة 162 العاملة في شمال قطاع غزة، للصحفيين: “لا عودة لأي شخص إلى الجزء الشمالي… تلقينا أوامر واضحة جداً بهذا الخصوص. مهتمي هي تطهير حيزي”.
ينفي الجيش، مراراً وتكراراً، أنه تبنى خطة الجنرالات التي تدعو إلى إجلاء مئات آلاف الفلسطينيين من مدينة غزة وضواحيها تحت تهديد المجاعة والحرب. ولكن يبدو أن ما يحصل هناك بالفعل هو أسوأ بكثير. ويصح افتراض أن التطهير العرقي في الشمال هو المرحلة الأولى نحو تطهير مدينة غزة من الفلسطينيين الـ400 ألف الذين ما يزالون يقيمون فيها. وإذن، ما يزال الأسوأ أمامنا.
من شأن النقد الأخلاقي للتطهير العرقي، ودعوة الجنود إلى رفض المشاركة فيه، أن يشكل نقطة تحول مهمة في موقف أجزاء من الوسط واليسار الإسرائيلي حيال ما يجري في قطاع غزة. ولكن، لكي لا يبقى الاحتجاج على التطهير العرقي في فراغ، من المهم إنشاء إطار كبير يطلق على هذه المعارضة اسماً ويمنحها السياق والقوة السياسية.
هذا هو الوقت المناسب لتشكيل “اللجنة الإسرائيلية ضد التطهير العرقي وجرائم الحرب”. ومن المهم سماع صوت قوي وواضح نطلقه، كإسرائيليين، ضد الجرائم التي تُرتكب باسمنا وبواسطتنا. من المهم منح الأصوات المختلفة التي تتحدث ضد تلك الجرائم في قطاع غزة شعوراً بأنها ليست وحيدة. وستكون مثل هذه اللجنة تنظيماً يشبه الجبهة المعادية للفاشية. وما تفعله إسرائيل في قطاع غزة اليوم هو أسوأ من الفاشية بكثير. إنه أكثر شبهاً بحرب إبادة.
من شأن إقالة يوآف غالانت من منصبه كوزير للدفاع، على الرغم من أن ذلك لم يكن مرتبطاً مباشرة بالتطهير العرقي الذي كان هو صانعه، وإنما بموقفه الداعي للتوصل إلى صفقة لتحرير المخطوفين ووقف إطلاق النار بصيغة ما، أن تعزز جبهة الرفض هذه. كان الرفض، وما يزال، هو الأداة الأقوى في مواجهة مشاريع الحرب الأبدية التي تقوم عليها الحكومة الحالية… والآن بشكل خاص، بعد فوز دونالد ترامب في الانتخابات وما ينطوي عليه من إزالة جميع الكوابح والعوائق من وجه نتنياهو وشركائه لإتمام التطهير العرقي في مدينة غزة.
في أعقاب إقالة غالانت، من المحتمل أن تنضم معارضة التطهير العرقي إلى قوى أخرى كانت قد حاولت إنهاء هذه الحرب الملعونة. لكن من المهم استخلاص الموقف الأخلاقي ضد الجريمة التي تشكل تهديداً، أولاً وقبل أي شيء آخر، على الوجود الفلسطيني في هذه البلاد -ولكن مع مرور الوقت وفي المدى البعيد على الوجود اليهودي فيها أيضاً.
*البروفيسورة ياعيل بيردا: حقوقية وعالمة اجتماع، عضو السلك الأكاديمي في الجامعة العبرية في القدس، مؤلفة كتاب “بيروقراطية الاحتلال”؛ ميرون رابابورت: صحفي، ناشط سياسي ومحرر موقع “محادثة محلية” العبري، (سيحاه ميكوميت).