عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
أكتب عن جزء من وطن الكنعانين، ومن موقع ما زال يحمل بصماتهم، قرية كبيرة من قرى فلسطين، الممتدة من النهر الى البحر، أنها جبع، الاسم الكنعاني الذي يعني التل او المكان المرتفع.
في هذا الكتاب أردنا أن نكتب قصة المكان، عبر الزمان، وأن نستحضر صورة الانسان الذي عاش في جبع وتجليات تفاعله الحضاري مع المكان.
جبع بلد زراعي بامتياز، وما تنتجه من محاصيل الزيتون شاهد على ذلك، كما أن بيوتها القديمة الحية وتلك التي هجرت، تشكل بصمات، شاهدة على من عاشوا ومرّوا ونحن نحاول أن نقرأهم في الزمان والمكان.
في جبع أماكن تاريخية هامة، متوهجة، تروي حكايات الأولين ومنها ما هو صامت لطول العهد به، ومنها المناطق بمن عاش أو انجز أو دافع عن المكان.
حين تذكر مدن فلسطين وقراها في التاريخ، نذكر جبع التي شهدت مواقف صمود وبطولة تحدثت عنها الكتب.
هنا بقايا لغة الآراميين، لغة فلسطين، لغة المسيح الذي مرّ منها، وقد كانت جبع واردة في مخطوطات الفراعنة، في عهد تحتمس الثامن، حيث ذكرت معركة مجدو وتفاصيل عنها، وحيث تشكلت تحالفات شملت القدس و 120 مدينة، وقد ورد ذكر معركة الكرامة والتحالفات على سلامات في الكرك وممفيس.
ولجبع في التاريخ منزلة تفوق منزلتها المعاصرة، حيث عادت لتلعب دورها بعد أن غادرت السكون ونهضت بدورها، فكانت عام 1596، وهي في موقعها في لواء اللجون، لا تحصي أكثر من مائة نسمة، حيث ورد أسمها في دفع الغلال وتنوع الانتاج الزراعي والحيواني.
في رصد مكانها الجغرافي، جاء أن جبع تقع في تل مرتفع جنوب جنين بأكثر من عشرين كم، وقد شهدت تقسيمات أقامها الاحتلال اليوم، حين قسمها بين مناطق A و B، وقد جرى تأسيس مجلس قروي جوارها في اللصاصمة.
من جبع ينطلق أهلها إن أرادوا الى الجوار في قرى صانوي ومثيلون وغيرها، وفي البلدة، جبع، تميزت بالبيوت بأنها متلاصقة، وكأنها تشكو من ضيق المساحات أو يميل أهلها الى مثلا حق الجيران، وغالب مبانيها من طابق واحد، وهي بيوت فلاحين بمواصفات بيوت الفلاحين في عموم فلسطين، التي يتكون بناؤها القديم من سقوف معقودة ومحمولة على قناطر حجرية ودوامر من الخشب أو الحديد، ثم لاحقاً المواد الأسمنتية.
وقد حاولت أن أقدم أسماء البيوت، سواء المسكونة أو المهجورة، في جبع وأسماء اصحابها وصورها المتوفرة، وقد زادت عن 170 بيتاً.
وجبع التي تتبع لإدارة السلطة الفلسطينية، يجاورها قرى ممتدة الى جوارها، هي قرى، غزة وعجد والغدقومية وسيلة الظهر وسيريس وياصيد والعطارة.
وتنتج جبع حجارة تقام منها البيوت، بعد ممارسة “دق الحجر” الذي عرفت به جبع، وهي من المهام الشاقة.
وفي جبع، ينشط التراث الشعبي، سواء في مجال الأغاني التي تحفظها أعراس جبع ومناسباتها ورعيانها أو قصص تلك الأغاني المتكررة في مختلف قرى فلسطين، وقد أوردنا في الكتاب نماذج على ذلك.
ولأن جبع تتمتع بموقع هام، فقد شهدت جولات من النضال الفلسطيني، منذ العشرينات والثلاثينات، وشاركت فيه، وكانت مقراً لجيش الانقاذ وقيادته، كما عرفت مواقع لتدريب مجموعات القسام قبل أن يستشهد القائد عز الدين القسام في يعبد جوارها، ويستطيع المحقق بتاريخ الفصائل الفلسطينية أن يقرأ معركة جبع، حيث الحق بالجيش البريطاني هزيمة مذكورة على يد قوات المجاهدين، وحيث تواصل الهجوم البريطاني من قوات الانتداب.
وقد قدمت جبع، أكثر من 50 شهيداً منذ عام 1936، واسماء الشهداء المهمين، منههم مثبوتة في كتب تاريخ فلسطين، لقد اختلطت جبع وجوارها الدم العربي العراقي بالدم الفلسطيني، في مسيرة النضال والمقاومة الفلسطينية، وهناك قصص عديدة لذلك.
كما احتضنت جبع، الثورة الفلسطينية منذ انطلاقها عام 1965، وبقيت جبالها تروي قصص من تلك الانطلاقة، وقد استمرت جبع بالتزامها الوطني وكانت فاتورة تضحياتها عالية، وقد أردنا اسماء الشهداء الذين زادوا عن خمسين والموقع الذي استشهدوا فيه.
ومكانة الشهداء عند أهل جبع وفلسطين، وما زالت قلعة آل جرار في صانور تروي حكاية من صمدوا ومن استبسلوا ومن جاءوا من الأردن لفك الحصار عن قلعة عكا أولاً والمرابطة في القلعة واستمرار شوكة فلسطين وتحديها للغزاة.
ومن البصمات الخالدة على ارض جبع موقع “ترسلة” على التلة، وهو موقع لصلاح الدين الأيوبي أثناء الحروب الصليبية على فلسطين وبلاد الشام.
وفي الامتداد كان موقع خربة لاوي أو الفي لاوي، وهو من ابناء يعقوب، وقد زاره الشيخ عبد الغني النابلسي، وكتب عنه في رحلاته.
ومن مساء لاوين الى مقام سيلان وما زال أهل جبع يرون أخبار المعركة الشهيرة، معركة جبع بتفاصيلها.
ولم يكن المسيحيون الذين هجروا جبع الى مناطق أخرى لظروفهم.. عن دورهم فيها أو تناقص العدد الى حد التلاشي الذي شهدته قرية الجلمة وسر غزال، واهل جبع ما زالوا يتذكرون جيرانهم من المسيحيين الذين هجروا الى الزبابدة.
أن الباحث في تفاصيل بلدة جبع، لا بد أن يستوقفه ذكر أمكنة في البلدة مثل (لفة عوني) وجبل جريش، المنسوب الى ولي يوقره أهل البلدة، وله موقع في لوائح الآثار، وكذلك قرية سابتا ووادي أبو كسلان المعروف.
وايضاً مقام بين ياروب، هوما يمثله من اثر كنعاني وروماني، ولا يوجد المزيد من التفاصيل عن ياروب هذا، ومن المعالم التي يزورها من يريدون التعرف على جبع، مقام الشيخ أمين، الذي ما زال يروي الحكاية، وهو لرجل صالح أقام فيه، ومن الطرائف أن جبع ما زالت تذكر سوق الحمير الذي كان يقام كسوق لبيع وشراء الحمير التي كانت ضرورية للحراثة والتنقل، حيث بورصة الحمير ترتفع وتنخفض حسب المواسم.
كما شهدت جبع، طرق للصوفية وعبر لفرقتهم، منها بعد اقامات متقطعة لاحياء المناسبات والطقوس، وتنتهي حدود جبع في بلدة قومية جبع القريبة من بيسان، حيث تقسيمات إدارية قديمة.
وحين نتحدث عن جبع، نتوقف ملياً عند عائلات جبع وعشائرها، وهي مندمجة تكاد تكون أسرة واحدة في العيش والتكيف والتعامل ولجهة التفاصيل، فإن في جبع عائلات مثل العلاونة الذين قبل أنهم جاؤا من الأردن.
وعشيرة الفاخوري (الفواخرية) حيث تشتهر جبع بصناعة الفخار وتبرز هذه الصناعة لتميز جبع عن سواها من قرى ومدن فلسطين، وحيث الإبداع والاختصاص وايضاً في صناعة الطوابين.
والى جانب العلاونة، هناك عشيرة جرار الممتدة في جبع وهم أصحاب قلعة جرار وامتدادهم في جنين وقراها، حيث كانت العائلة من عائلات الاقطاع.
والى جانب جرار، هناك عائلة الحموري، الحمارنة، ولهم امتداد في الأردن وفلسطين، وجاء على ذكرهم كتاب شرق الأردن وقبائلها، فريدريك بيك وغيره.
ومن العشائر ايضاً العائلات الكبيرة، “الملاجدة” وهي من عدة عالات، وتعتبر أكبر جبع ومنها الدكتور فطين البداد وآل البداد وغيرهم من العائلات الجبعية التي يجمعها لقب الاسم، الذي أشار اليه مصطفى مراد الدباغ، في كتاب “بلادنا فلسطين”، ولم أحصل على تفاصيل كافية عن هذه العشيرة الأبرز في جبع.
ومن خلال تفاعل الانسان مع المكان، تبرز العادات والتقاليد، والحرف والنشاطات الانتاجية وغير الانتاجية، مثل الفلكلور، ومن النشاطات البارزة، صناعة الفخار ودق الحجر وعصر الزيتون وانتاجه بكميات وفيرة، حيث احتلت صناعة زيت الزيتون مساحات من التراث والأغاني، التي ضمت العديد من نشاط أهل القرية وقرى فلسطين الآخرى.
والذي يزور جبع، يتذوق الطعام التقليدي الذي عرفه به جبع، مثل المسخن والمنسف والعكوب باللبن والشيشبرك، كما أن نابلس أم الكنافة، أشركت جبع في صناعتها الى جانب اكلات المجدرة والمفتول وخبز الطابون الشهير وكذلك ورق العنب (الدوالي)، ويرافق هذا الفلولكور والعادات في الأطعمة والفلوكلور المتضمن الألعاب الشعبية وهي عديدة، تمدتت في جبع وغيرها من مدن وقرى فلسطين، والالعاب الشعبية في فلسطين متشابعة ومنتشرة في كل مدنها وخاصة قراها.
ولأن دوافع الكتاب هي ذكر القرية واهلها والتعريف بها، فقد رعى هذه الفكرة أحد أبناء جبع المغتربين، حيث عاش اباؤه واجداده في جبع، انه الدكتور فطين البداد وشقيقه زايد، الذين يديران ويملكان أكبر شركة لصناعة البيوت المتنقلة والمستشفيات والخيام في الإمارات العربية المتحدة.
فقد حاولت أن اتحدث عن العائلة ومؤسسها وتتبع مسقط رأسه وعمله ووصولها الى دول الخليج قادماً من البصرة الى الكويت ثم أبو ظبي.
وقد جاء على ذكر الوالد حسين البداد والجد، وعن انجازاتهما التراكمية والمشروع الذي بدأ فردياً الى أن أصبح شركة قابضة كبرى وانبثقت عنها عدة مشاريع.
كتبت عن الوالد حسين وعن الجد وعن الأبناء وكفاحهم وعن المشهد الاقتصادي الذي أنجزوه، وعن رحلة النجاح والمعاناة، وخاصة سيرة الوالد حسين البداد، الذي ولد في حيفا وعمل في الإمارات وتوفي في الأردن بعد رحلة طويلة غرس فيها ثماراً طيبة، وقد جاء الكتاب على ذكر الجد، عيسى البداد، الرجل الصلب الذي أورث الأحفاد جزء من طبائعه في المروءة والكرم والود والصبر والصلابة والمسؤولية عن العائلة، وعن الوالد الذي شهد استقلال الكويت ونشوء بلدية أبوظبي عام 1961، حيث درس فطين التلميذ في مدرسة أبو الطيب المتنبي في أبوظبي، وعن العائلة الموزعة بين عمان والكويت، والاعتماد على الوالدة التي احتضنت اطفالها وربتهم في غياب الوالد، وقد تعلم الابناء من سعده البداد (الوالدة) الكثير.
كما توقف الكتاب عند شركات البداد وخاصة البداد القابضة وعن المشاريع الكبرى والطموحة في اكثر من بلد وعن الدور الذي قامت به شركة البداد في تزويد بلدان عديدة حول العالم بالمستشفيات المتنقلة بما في ذلك الأردن، التي حظيت بالعديد منها، وقد دخلت البداد القابضة بانجازاتها موسوعة غينيس للأرقام القياسية، ومع الحديث عن الشركة ومشاريع البداد، وتحدث الكتاب عن رجلي الأعمال، رئيس مجلس الإدارة الدكتور فطين والرئيس التنفيذي، زايد البداد، وعن دراسة الدكتور فطين للعلوم السياسية ووضعه كتاب العلاقات الأردنية الفلسطينية الذي حظي بمقدمة من قلم رئيس الوزراء الأردني الراحل عبد السلام المجالي تقديراً للكتاب.
لقد تحدث فطين البداد، عن رحلة العمل التي بدأت على يد الوالد الى جاء الدكتور فطين وشقيقه زايد، ليشكلا الانطلاقة الحقيقية للشركة ونقلها الى المؤسسية والعالمية.
وتحدث فطين عن مسقط راس والده في حيفا وعن فجيعة رحيل الوالد في عمان، وعن زواجه وعائلته وعن زوجته الثانية الإعلامية المعروفة، نور الاتاسي، التي عملت في التلفزيون السوري لسنوات، وقد تحدثت الإعلامية نور، عن جزء نشط من حياتهما.
كما تقوقف الكتاب عند حياة زايد البداد ودراسته وعمله ومساره الوظيفي، وعن المشاريع المشتركة للاستثمارات، وعن اسماء الشركات وتخصاصاتها وتعددها في عديد البلدان وما نالته شركات البداد من جوائز وتقديرات.
وقد رصدت المقابلات التي أجريت مع الدكتور فطين ومع زايد، العديد من الإنجازات ومراحل العمل والشعار (العالم تحت سقف واحد) وعن البداد كعلامة تجارية.
كما ورد في الكتاب مقالين مختارين من بين العديد من المقالات التي تناولت انجازات البدادين، فطين وزايد، كتبهما سلطان الحطاب، الذي أعد هذا الكتاب برعاية من الدكتور فطين، صاحب الفكرة الذي أراد أن يقدم مسقط رأس ابائه واجداده، للأجيال القادمة، التي لا تعرف جبع، والتي لا بد أن تبقى على صلة مع هذا المكان وما يمثله.
أن لجبع أبناء عديدين متميزين منتشرين بنجاح أعمالهم في عديد من البلاد العربية وخاصة في الأردن، ويبقى هذا الكتاب بداية، يبنى عليه ويقدم البلدة بأوسع وأشمل مما قدمت، فيحكي عن تاريخها ودورها وعائلاتها أكثر.
يبقى أن أقول في هذه المقدمة التي اختصرت الكتاب، أنه لولا دعم الدكتور فطين رجل العطاء، لما كان هذا الكتاب، ولما جرى تقديم جبع للقراء، حيث يفتح الدكتور فطين بذلك باب اسناد بلده وتمكين ابناء البلد من ان يقدموا له الكثير ممن يحتاجه هذا البلد الذي ما زال يعاني الاحتلال.
أن ما كتب عن جبع فيه وعن ملخصه لقراء المكان والزمان والزيارة وصاحب الرعاية.