عروبة الإخباري –
الحرة – غزوان الميداني –
“معروف عن السجون والأفرع الأمنية في سورية بأن الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود، لم أكن أحلم يوما بأنني سأخرج من السجن، على الأقل لن أخرج منه حيا أو هكذا ظننت”.
بهذه الكلمات يروي الأردني إبراهيم سليم فريحات سائق السفريات بين عمان ودمشق وبيروت مرحلة اليأس الإحباط التي وصل إليها حين كان يقبع في الزنزانة عاريا، تنهشه أنياب الرطوبة والبرد، وتخز أنفه رائحة العفن، بينما يقضي حكما جائرا وقع عليه بعد اعتراف انتُزع منه بأشد الطرق الوحشية واللاإنسانية على الإطلاق.
بداية القصة تعود إلى الثالث والعشرين من آذار عام 2008 عندما كان إبراهيم على وشك الانطلاق من عمان باتجاه دمشق مع حمولته من الركاب.
يومها، طلب منه أحدهم أن يوصل أمانة إلى شخص آخر في دمشق، إذ من المألوف أن يرسل الناس الهدايا والطرود بين العواصم مع سائقي السفريات.
كانت الأمانة عبارة عن حقيبة أراد الشخص المرسِل أن تكون هدية لأحد أصدقائه، ولأن الحقيبة فاخرة وفارغة لم يتردد إبراهيم في حمل الأمانة كما طلب منه.
وصل إبراهيم إلى دمشق وأوصل ركابه بسلام. اتصل بصاحب الحقيبة وحدد معه مكاناً للتسليم. لم يكن يعلم أن هذه اللحظة ستغير حياته إلى الأبد. فور تسليمه الحقيبة، أحاط به مسلحان ووضعا مسدسيهما على ظهره قبل أن يقيدانه ويعصبان عينيه ويلقيانه في سيارتهما… وكانت تلك بداية رحلته نحو المجهول.
انتهى به المطاف في أحد الأفرع الأمنية السورية، والمعروف باسم فرع فلسطين. وهناك تبين له أن الحقيبة كانت تحتوي على رسالة حول معلومات عن الجيش السوري مخفية داخل بطانة الحقيبة.
واجه إبراهيم أساليب تعذيب قاسية، شملت الصعق الكهربائي، التعليق من اليدين لمدة يومين، والتجويع. لم تكن هذه الأساليب تهدف فقط إلى انتزاع اعترافات، بل أيضاً إلى كسر الروح الإنسانية. إبراهيم، الذي أقسم عدم معرفته بمحتوى الرسالة أو أي نشاط مخالف، وجد نفسه، وحيداً ومحاطاً بالشكوك والتهم.
لم يكن الألم الجسدي هو الجانب الوحيد من معاناة إبراهيم. في زنزانة انفرادية، كان يقضي أيامه محاطاً بالصمت والخوف، والشوق للأهل والأحباب.
وهكذا تحول إبراهيم من مواطن يتمتع بكل حقوقه إلى مجرد رقم فصار اسمه السجين رقم “31”.
بعد تعذيب شديد، وقف إبراهيم أمام محكمة أمن الدولة العليا في سوريا. وُجهت إليه تهم التخابر مع جهات معادية ونقل معلومات عسكرية، وحُكم عليه بالسجن لمدة تجاوزت العقدين.
لم تكن المحاكمة سوى إجراء شكليا لتثبيت الحكم؛ حيث لم يتمكن إبراهيم من الدفاع عن نفسه، ونقل إلى مسلخ سورية البشري “سجن صيدنايا”.
وبينما هو غارق في اليأس في زنزانته التي قضى فيها نحو 17 عاما ضج السجن وعلت التكبيرات في جنباته، وكأنه يوم القيامة. رجال مسلحون يفتحون أبواب السجن وسط ذهول المساجين الذين راحوا يتدافعون لاستنشاق عبق الحرية بعد سنوات عجاف التهمت أجسادهم وأرواحهم.
“سقط نظام الأسد” تلك الكلمة التي ترددت في أجواء السجن وقوبلت بفرح عارم لا يقل نشوة عن نشوة الحرية.
بخطوات مترنحة، سار إبراهيم لمسافة تصل إلى 35 كيلو مترا حتى وصل إلى العاصمة دمشق وهناك التقى بمجموعة من الشباب الذين ساعدوه على العودة إلى الأردن، حيث التقى أخيرا بعائلته.
إبراهيم اليوم بات بين أهله، لكنه يعيش مع ذكريات محفورة على جدران ذاكرته كتلك النقوش التي وجدت على جدران زنازين سجن صيدنايا.