عروبة الإخباري –
الديار – ندى عبد الرزاق –
شهد القطاع التربوي في لبنان خلال السنوات الأخيرة تراجعاً غير مسبوق، نتيجة تراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصحية التي عصفت بالبلاد منذ عام 2019. فقد شكّلت الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في تشرين الاول من ذلك العام بداية التحولات الكبرى، حيث أظهرت هشاشة النظام الإداري وضعف التخطيط الحكومي، مما انعكس على مختلف المجالات، بما في ذلك التعليم.
ومع انهيار قيمة العملة الوطنية وارتفاع معدلات التضخم، أصبحت المدارس الرسمية ملاذًا لكثير من الأسر غير القادرة على تحمّل تكاليف التدريس الخاص، ما زاد من الضغوط على هذا القطاع.
كل مسؤول “همّو بحالو”!
إلى جانب ذلك، تفاقمت الأزمة بفعل سلسلة من الإضرابات والاعتصامات، التي نفذها المعلمون للمطالبة بتحسين رواتبهم، وتأمين حقوقهم الأساسية، في ظل الشظف المعيشي الذي تعاظم مع مرور السنوات. هذا الواقع دفع العديد من المدارس الرسمية إلى تقليص أيام الدراسة بشكل ملحوظ، حيث انخفض عددها تدريجيا إلى مستويات غير مسبوقة. أما الدعم الدولي الذي كان يسهم جزئياً في استقرار القطاع، فقد شهد هو الآخر تدهوراً، نتيجة تحفظ الجهات المانحة على استمرار التمويل، بسبب انعدام الثقة بالإدارة المحلية.
من ناحية أخرى، جاءت جائحة “كورونا” لتضيف بُعدا جديدا للأزمة، حيث فرضت التعليم عن بُعد، في وقت كانت فيه المدارس والبنية التحتية تفتقر إلى المقومات التقنية اللازمة. وقد زادت الأمور تعقيدا مع انفجار مرفأ بيروت في آب 2020، إذ تضررت العديد من المؤسسات التعليمية، مما أدى إلى توقف آلاف الطلاب عن التعليم لفترات طويلة.
وفي عام 2024، لم يكد ينتهي العدوان “الإسرائيلي”، الذي استهدف لبنان من شماله الى جنوبه، حتى برزت مطالبات المعلمين بضرورة تحسين أوضاعهم، كشرط أساسي لانطلاق العام الدراسي، من بينها زيادة الحوافز واعتماد جداول تدريس مرنة، تتيح لهم البحث عن مصادر دخل إضافية. لذلك، فإن عدم تلبية هذه المطالب يهدد بموجة جديدة من الإضرابات، مما يضع مستقبل الأجيال الشابة على المحك.
هذا الواقع المرير للقطاع التربوي يعرض تساؤلات جوهرية حول قدرة الدولة على معالجة جذور الأزمة، ووضع خطة إنقاذ حقيقية، تضمن استمرارية التعليم في ظل التحديات المتفاقمة، وتعيد الأمل بمستقبل أفضل للأجيال المقبلة.
الحفاظ على التقليد “مش ضروري”!
وفي هذا الإطار، شهدت الساحة التربوية في لبنان جدلاً واسعاً حول تنظيم إجازة عيد الميلاد ورأس السنة هذا العام، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي يعاني منها القطاع التعليمي الرسمي والخاص. فعادةً ما كانت تمتد هذه العطلة الى فترة طويلة تتراوح بين 14 و20 يوما، إلا أنه تركز النقاش هذا العام على تقليص مدتها، بسبب الأوضاع الاستثنائية التي يمر بها التعليم. وتداولت أوساط تربوية وإعلامية مقترحات لتقسيمها، بحيث تكون يومين لعطلة الميلاد ويومين آخرين لرأس السنة، بدلاً من الاستراحة الممتدة.
البيان “ملغوم”!
ولكن، فجأة أصدرت وزارة التربية بيانا حسمت فيه السجال، حيث أعلن وزير التربية أن عطلة عيد الميلاد ورأس السنة ستستمر 14 يوماً، تبدأ من يوم الأربعاء 24 كانون الأول 2024 وتنتهي مساء يوم الاثنين 6 كانون الثاني 2025، إشارة الى ان إجازة بعض المدارس قد بدأت من تاريخ 23 الجاري وحتى مساء 6 كانون الثاني. وجاء هذا القرار ليعيد الأمور إلى مسارها التقليدي، رغم ظروف العام الدراسي المتعثرة.
بناء على ما تقدم، اثارت هذه العطلة التي أعلنت عنها وزارة التربية، مشادة واسعة في الأوساط التربوية والمجتمعية، ولا سيما ان الواقع الذي يمر به القطاع التعليمي دقيق. لذا، اتخذ هذا القرار بعد وقت قصير من انتهاء الحرب الأخيرة، التي تسببت بتدمير عشرات المدارس في الجنوب والبقاع، إضافة إلى التأثيرات السلبية التي تركتها في البنية التحتية والبيئة التعليمية بشكل عام.
وفي ضوء الوضع التعليمي الحالي، يتساءل كثيرون: هل يمكن تبرير هذه الفرصة الممتدة في وقت يعاني فيه الطلاب من ضعف واضح في مختلف المواد الدراسية؟ هذا الانكسار ليس وليد اللحظة، بل تراكم على مدى السنوات الأخيرة، نتيجة اختصار المناهج بسبب الأزمات الاقتصادية والمعيشية المتلاحقة، إضافة إلى الإضرابات المتكررة التي عرقلت سير العام الدراسي. وقد ضاعفت الحرب الأخيرة من تعقيد المشهد، حيث توقف التعليم لاوقات طويلة في العديد من المناطق.
في المقابل، تدفعنا هذه المعطيات الى التساؤل: هل يخدم تمديد عطلة الميلاد ورأس السنة الطلاب في هذه المرحلة الحساسة؟ أم أن هذه الإجازة الطويلة ستعمّق الفجوة في التحصيل الدراسي وتزيد من صعوبة استكمال المناهج بفعالية؟ وكيف يمكن للوزارة أن توازن بين حق الطلاب والمعلمين في الراحة، وبين ضرورة تعويض ما فات من الدروس، لضمان استمرارية العملية التعليمية بأقل الأضرار؟
تبقى هذه الاستفسارات مطروحة في انتظار خطوات عملية تعكس إدراكاً لحجم الأزمة وتأثيرها في مستقبل التعليم في لبنان.
المتعاقدون
في سياق متصل بالقطاع التربوي، اجتمع وزير التربية عباس الحلبي مع لجنة المتعاقدين في التعليم الثانوي والتعليم الأساسي الرسمي، التي ضمت منتهى فواز وحسين سعد. وتناول الاجتماع مناقشة رفع أجر ساعة التعاقد، واحتساب بدل الإنتاجية لمدة 11 شهراً، ورفع قيمة الإنتاجية، وأن يشمل بدل النقل اليوم الرابع، كما طالبوا باحتساب العقد الكامل الذي يحتاج إلى تشريع، بالإضافة الى معالجة أوضاع المستعان بهم.
من جانبه، وضعهم الحلبي في صورة المساعي التي يبذلها مع الحكومة بشأن كل مطلب، مشيراً إلى أن بدل الإنتاجية سوف يصبح أعلى مع احتساب نسبة رفع مضاعفة الرواتب، وأن مجلس الوزراء وافق على تسجيل التلامذة غير اللبنانيين، الذين يحملون إقامات صالحة ووثائق مفوضية اللاجئين، مما سيخفض عدد التلامذة النازحين بصورة كبيرة، وخصوصاً أن أعداداً كبيرة من العائلات بدأت العودة إلى سورية، لافتاً إلى أن اليونيسيف وافقت على دفع بدل التعاقد للمستعان بهم قبل الظهر لسنة واحدة فقط.
القطاع التربوي
يتطلّب “نفضة” شاملة
من جهته، يقول نقيب المعلمين في المدارس الخاصة نعمة محفوض لـ “الديار”: “للأسف، يساهم هذا التعامل العشوائي مع الملف التربوي بشكل كبير في انحدار المستوى التعليمي في لبنان. فإذا قارناه بما كان عليه قبل عشر سنوات، نجد أننا تراجعنا بشكل كبير، بل وصلنا إلى مرحلة خطرة”.
ويوضح “سأنطلق من القطاع الرسمي، حيث تأخرت بداية العام الدراسي في المدارس الحكومية لأكثر من شهرين، بسبب استخدام المراكز التربوية لإيواء المهجرين وأسباب أخرى. وبدلاً من استغلال الوقت لتعويض الطلاب عن التأخير، فُرضت عليهم عطلة طويلة. برأيي لا أحد اليوم يحمل همّ هذا البلد، الذي تتقهقر أوضاعه الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية. فالجميع منشغل بمنافعه الشخصية فقط”.
ويشير الى أن “الطبقة السياسية الحاكمة لا تفكر إلا في مصالحها. هل سمعتم مسؤولاً يقول إن المؤشر التربوي في البلاد تراجع؟ هل فكر أحد في ما يمكن فعله لإعادة التعليم إلى تصنيفه الطبيعي؟ للأسف، لا أحد يهتم”.
ويؤكد “العمل النقابي تراجع بشكل واضح، كما أن أولياء الأمور لا يتحركون. وهمهم الوحيد أن يذهب أطفالهم إلى المدرسة، دون أن يسألوا عمّا يتعلمون أو عن مكانتهم الأكاديمية. حتى الشهادة اللبنانية، التي كانت رمزاً للجودة، فقدت الكثير من قيمتها”.
ويضيف “اثناء فترة الحرب، خسرنا شهرين أو ثلاثة من العام الدراسي، بسبب الاشتباكات المسلحة. وبدلاً من أن نستغل الوقت والأيام والساعات لتعويض الطلاب، عدنا إلى سياسات العطل الطويلة. والامر الأكثر استفزازا، انه في المدارس الرسمية، فإن التعليم يقتصر على ثلاثة أيام في الأسبوع”. ويسأل محفوض عن “مطالبة الأساتذة للتدريس أربعة أيام إذا حصلوا على إنتاجية”، ويسأل باستغراب لماذا لا يكون التعليم خمسة أيام كما هو الحال في المدارس الخاصة، التي بدأت منذ بداية تشرين الاول وتعمل بوتيرة منتظمة”؟
ويطرح استفسارات: “من يُحَاسَب في هذا البلد؟ هل تُسائل الحكومة وزارة التربية؟ وهل تستجوب الوزارة المعلمين؟ لا توجد أي آلية مراقبة واضحة. النتيجة أن الطلاب يدفعون الثمن، ولا أحد يستعلم عن مرتبتهم الأكاديمية أو عن الفاقد التعليمي الذي يعانون منه”.
ويختم قائلاً: “نحن نعيش في بلد فاسد من رأسه إلى أخمصه. السياسيون أخذونا إلى جهنم الحمراء، وكل واحد منهم يهتم فقط بجماعته وأهدافه الشخصية. لا أحد يستفهم إذا تعلم الطلاب أو ماذا يتعلمون. لذا يحتاج هذا البلد إلى “نفضة” شاملة تبدأ من القمة الى القعر. وإذا حصلت هذه النفضة، حتماً ستشمل القطاع التربوي وتعيده إلى مساره الصحيح”.