عروبة الإخباري –
العرب – حنان مبروك –
من لبنان المنقسم على ذاته، من قصص نسائه المناضلات، ومن رمزية أرزه الشامخ، صنعت المخرجة الشابة ميرا شعيب أول أفلامها الروائية الطويلة “أرزة”، الذي يمزج بين الدراما والكوميديا ليصور حكاية متخيلة داخل المجتمع اللبناني، مسلطة الضوء على تناقضاته والتحديات التي تعصف به وبالعلاقات الاجتماعية على اختلافها.
الفيلم بطولة كل من دياموند أبوعبود وبيتي توتل، مع الممثل الشاب السوري بلال الحموي، بالاشتراك مع ضيوف العمل كل من الممثل فادي أبي سمرة، جنيد زين الدين، فؤاد يمين، إيلي متري، طارق تميم، هاغوب درغوغاسيان، جويس نصرالله، شادن فقيه ومحمد خنسا، بالإضافة إلى وجوه جديدة من لبنان.
وتدور أحداث الفيلم حول “أرزة”، أم عزباء مقيمة في بيروت، اضطرتها الظروف الصعبة إلى بيع الفطائر لتأمين لقمة العيش لابنها كنان وشقيقتها ليلى التي تعاني من اضطراب نفسي. والفيلم من تأليف لؤي خريش وفيصل شعيب شقيق المخرجة ميرا، وإنتاجهما أيضا.
يأخذ هذا الفيلم من لبنان أهم رموزه، شجرة الأرز، ليكون عنوانا له واسما لبطلته التي سنكتشف مع نهاية العمل السينمائي أنها لم تكن رمزا للمرأة اللبنانية فقط وإنما هي رمز للبنان الذي يضحي ويقاوم كي لا ينهار ويفقد كل أحبابه، كالأرزة التي ترمز للخلود والصمود وتقدسها أغلب الطوائف.
استوحت المخرجة وكاتبا السيناريو الفيلم من “سارق الدراجة” وهو فيلم إيطالي أنتج عام 1948، وأخرجه الإيطالي فيتوريو دي سيكا. يتحدث الفيلم عن رجل فقير يبحث في شوارع روما عن سارق دراجته، التي يحتاجها للقيام بعمله. والفيلم الأصلي مأخوذ عن رواية تحمل الاسم ذاته للكاتب الإيطالي لويجي بارتوليني.
يصنف الفيلم ضمن أفلام الواقعية الجديدة، وصوره المخرج في موقع واحد فقط، في العاصمة الإيطالية. وبالمثل، صورت المخرجة اللبنانية فيلمها بالكامل في العاصمة بيروت، وركزت فيه على رحلة البطلة أرزة (دياموند أبوعبود) وابنها كنان في البحث عن دراجتهما المسروقة.
تحملنا كاميرا المخرجة ميرا شعيب في أحياء بيروت المنقسمة والمخصصة لطوائف بعينها، كاشفة مدى انقسام الشعب إلى طوائف ومذاهب وانتماءات مختلفة وكيف يملك كل حي/ تجمع سكني ضوابطه وقوانينه و”زعرانه” (مجرميه) الذين يتواصلون مع قادة الطوائف الأخرى ويعلم كل منهم ماذا يحصل في بيروت بكاملها، ويتحكم كل مجتمع فيهم بالنساء كل وفق قوانينه وأيديولوجياته الدينية.
ركزت شعيب لقطات الفيلم على بيروت “الشعبية”، على المجتمع البسيط والذي يعاني يوميا ليوفر قوت يومه، فهي تصور المنازل المتراصة وديكوراتها الداخلية البسيطة وسلوكيات اللبنانيين اليومية التي تكشف عن مجتمع منقسم لكنه قادر على التعايش السلمي وتقبل الآخر واختلافه.
وأرزة كما تصفها المخرجة في تصريحاتها “نموذج حيّ للمرأة اللبنانية المناضلة. إنها تمثل أمهاتنا وعمّاتنا وخالاتنا. تشبهنا بتفكيرها البعيد عن الطائفية والسياسة. تسير وراء هدفها حتى نيله مهما كلّفها الأمر. فهي الأم التي تربّي الأجيال بحُبّ واهتمام، فتولّد مجتمعا مُشبعا بالعطف والحنان. إنها تجمع بدل أن تفرق.” وهذا بالفعل ما نجحت الممثلة دياموند أبوعبود في إيصاله إلى المشاهد، فقد تقمصت شخصية أرزة الأم الشابة التي اضطرتها الحياة وظروفها إلى أن تكون العائل الوحيد لابن طائش ولا مبال وكسول وأخت تعيش على أمل عودة حبيب غائب، رافضة مغادرة البيت عله يعود فجأة ولا يجدها.
تسرق أرزة الذهب وترهنه لدى أحد محلات الذهب، تشتري دراجة نارية ليساعدها ابنها في بيع الفطائر وتوسيع مصدر دخلهم. ولد مستهتر عوض أن يبيع فطائر والدته يقدمها أحيانا لأصحابه، ولأنه يحب السهر معهم وتعاطي “الحشيش” و”المشروب”، تسرق الدراجة منه، وتواجه والدته خطر السجن وخسارة ذهب أختها، فتقرر أن تبحث عنها في كل شوارع بيروت. رحلة مضنية وشاقة لكنها كوميدية تخوضها الأم وابنها متنقلين بين أحياء السنة والشيعة والدروز والموارنة والأرمن. رحلة تصل بها إلى مخيم شاتيلا، تسلط فيها المخرجة الضوء على مدى انقسام المجتمع اللبناني، وتنجح الأم في آخرها في استرداد دراجتها بسرقتها من مستودع يبيع صاحبه مركبات مسروقة، وكأنها تقول للمشاهد إن على “بيروت أن تسرق من العالم كل ما سرق منها عنوة وتعود إلى الحياة بالكثير من الأمل في مستقبل أفضل.”
وقبل أن تنجح في استعادة دراجتها، تضطر أرزة إلى أن تتلون وتتبنى رموزا دينية ولهجات متنوعة، تضطرها الظروف إلى دخول مناطق طائفية، فتتقمص شخصيات لها صلة بها، شعارها الوحيد “دلوني عليك” كلما دخلت بيت أحد الرجال المعنيين، مستعينة بمتجر صغير للهدايا في شارع الحمرا، تنشأ بينها وبين صاحبته مواقف كوميدية ساخرة، حيث تصدمها كل مرة بطلب غريب رغم عدم امتلاكها للمال، فهي تارة تبحث عن حجاب وجلباب وتارة أخرى تبحث عن صليب ثم سلسال نقش عليه اسم عمر كتلك التي يرتديها الشيعة.
وفي الفيلم امرأتان تدور الأحداث الرئيسية بينهما، الاثنتان ضحايا رجال، الأولى تركها زوجها وهي ابنة 16 عاما وغادر لبنان، لتجد نفسها مسؤولة عن طفل تحاول إقناعه بأن والده يسأل عنه ويتذكره بهدايا تشتريها من مالها الخاص، وتسعى لمنعه من الهجرة والسفر إلى والده، أما الثانية فهي حبيبة مضطربة نفسيا تنتظر حبيبا وعدها بالزواج لكنه غاب فجأة ولم يعد، تاركا لها سوارا وخاتما من الذهب، تخبأهما كذكرى وحيدة تجمعها به، تنتظره بشغف المحبين ليتزوجا، وترفض كل محاولات أختها لبيع الذهب أو رهنه من أجل تحسين أوضاعهم.
◙ الفيلم يأخذ من لبنان أهم رموزه ليكون عنوانا له واسما لبطلته التي كانت رمزا للبنان الذي يقاوم
أختان تتنافسان على تربية الولد كنان، الأولى تريده رجلا يساعدها ويعمل لإعالتهما والثانية تعامله كآخر الرجال، تخاف تعرضه للمرض والموت، تسعى لإرضائه بالدلال المادي والعاطفي، غير مبالية بأنه صار رجلا وعليه أن يكون قواما على خدمة أمه وخالته.
هناك أيضا نساء يظهرن في مشاهد ثانوية، لكنهن جميعا نساء مضطهدات من الرجال، باختلاف درجات الاضطهاد. فالفيلم يمعن في تصوير الرجال كبارا كانوا أو صغارا على أنهم عنيفون، ذوو ألسنة سليطة، أنانيون، كسالى، بخيلون، لا يملكون حس المسؤولية، يتعاملون بسطحية مع كل المشكلات، ولا يهتمون إلا بالأكل والمتعة والمال. كلهم هكذا على اختلاف طوائفهم، وحدهم الذكور صغار السن من يظهرون بعض الإيجابية في شخصياتهم، وهذا يجعل الفيلم يبدو منحازا بشدة نحو النساء، مصورا بطولات نسائية في مواجهة ضعف ذكوري مطلق وغير منطقي.
وتحاول المخرجة التقليل من حدة هذه الفكرة بالتركيز على المشاعر المشتعلة بين كنان وحبيبته، وكيف تدفعه العلاقة معها نحو العمل على تحسين حياته والتفكير في استكمال دراسته الجامعية رغبة منه في الزواج بحبيبته. هي أيضا تدخلنا في الصراع بين الأم وابنها حين تكشف له حقيقة والده، وكيف ربته لوحدها دون أن تشوه صورة الوالد الغائب والمتخلي عن مسؤوليته تجاه ابنه، فتصلح بهذا الحوار الخلل في شخصية ابنها.
90 دقيقة حملتنا نحو بيروت المتنوّعة والمنفردة بهويتها، يصورها لنا فيلم واقعي مليء بالرموز، يتبنى ممثلوه حوارات عميقة، ويظهرون مواهب متباينة وقدرات على تقمص الشخصيات والإقناع بمدى واقعيتها وقربها من نماذج من اللبنانيين، مثيرين العديد من التساؤلات في عقل المشاهد، الذي بالتأكيد سيستغرب من قدرة أرزة على السير قدما نحو هدفها دون أن تتبين ملامح الطريق ولا حتمية الوصول. هو قصة مستوحاة من حكايات كل امرأة لبنانية واجهت المصاعب والأزمات بصلابة، تتمسك بالأمل وترفض الاستسلام ومغادرة لبنان رغم أزماته الخانقة.