«حسن البرقاوي وجهوده في نهضة اللغة العربية في الأردن، من (1925–1969) للأستاذ الدكتور سمير الدروبي، يراوح بين السيرة الغيرية، والتأليف العلمي، فهي دراسة مستقصية لجهود البرقاوي في مجال التعليم، وبحث وافٍ لانشغالاته العلمية وعنايته باللغة العربية التي كانت في مقدمة المواد التي درّسها، مع محاولة الإمساك بخيط سردي يحدثنا الدروبي من خلاله عن سيرة هذا الرجل العلمية والعملية، وليس الاجتماعية،حيث ترك هذا الجانب (الاجتماعي) أو التكويني وجوانب أخرى لمؤلفات قادمة عن حسن البرقاوي-يرحمه الله- يعالج فيه الجوانب التي لم ت?عالج هنا.
أما هذه السيرة فهي تنحو منحى جمالياً وموضوعيا في آن،وذلك من خلال لجوء الدروبي إلى السرد الحكائي الذي يدعم كل فكرة يقدمها في هذا العمل، حيث يستعين بما يرويه طلاب البرقاوي وأصدقاؤه، ومعارفه، وذووه،بحيث يتورط القارئ في أثناء قراءته لهذا العمل بملاحقة الحكاية تلو الحكاية، سواء تلك التي يستشهد بها الدروبي بروايات الآخرين، أو تلك التي يبحث عنها في غيابة الجب، أعني السجلات والوثائق التي لاحقها المؤلف في العديد من الأمكنة ليستمد منها مادته. إنك تقرأ عملاً تسجيلياً بعيدا عن السيرة التقليدية المسماة بالغيرية، فقد تت?ع المؤلف مظاهر حياة شخصيته (واسمحوا لي أن أسميها «بطل حكايته») بأسلوب غاية في التنسيق والتنظيم بما يخدم عناوينة الرئيسة والفرعية، ثم نقلنا داخل ذلك كله إلى أجواء «العمل السردي» عبر جماليات ما يشبه «الكولاج الروائي» لرسم صورة مكتملة لجهود الرجل، عبر رواية محطات من حياته، ومقتطفات من شهادات تلاميذه الذين غدوا أعلاما من مشاهير رجالات هذا الوطن، الأمر الذي أدى إلى «بلاغة التوثيق» التي حذقها الدروبي في عمله على الملاءمة والمواءمة بين شذرات من المعلومات والبيانات كا ن عليه أن يتقن التوليف بينها.
لقد جاءت دراسة الأستاذ الدكتور سمير الدروبي عن حسن البرقاوي في مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، ومجموعة من الملاحق والفهارس.
تناول الفصل الأول (حسن البرقاوي المعلم) حيث وضّح المؤلف فيه كيف سعت الإدارات في استقطاب البرقاوي للتعليم في المدارس الأردنية، بعد أن غادر سوريا عام 1925 م،ليصل إلى إمارة شرق الأردن معلما في مدارسها بمدن عديدة: مثل السلط والكرك وغيرهما، ليلقى إشادة الأهالي وإعجاب الطلبة، وإنصاف الإدارة، ويمثل الدروبي على ذلك بكتاب صادر عن
(متصرف الكرك عام 1930) وفيه » أرجو أن تعلموا أن أستاذ اللغة العربية بمدرسة تجهيز الكرك السيد حسن البرقاوي من خيرة الأساتذة الذين يغارون على القيام بالواجب ويحسنون أساليب التدريس، وقد أصبح هذا مشهوداً ومعلوما عنه، فلذا أرجو أن يقدّر المومى إليه من قبل سعادتكم لكونه أهلاً لذلك » وفعلا تتم ترقيته ويطلق عليه بعدها (أستاذ الأجيال الأردنية).
وخاتمة هذا الفصل تقود الدروبي إلى الفصل الثاني، وهو بعنوان (البرقاوي في عيون الأردنيين) الذي تتبع فيه محبة الأردنيين للبرقاوي وتقديرهم وتوقيرهم له ليغدو (أول معلم أردني يُمنح أرفع وسام للتعليم في الأردن).
وقد جهد الدروبي غاية الجهد في تتبع شهادات الأردنيين التي أكدت المعرفة الموسوعية التي تميز بها هذا المعلم،مثلما أكدت هذه الشهادات إيمان البرقاوي العميق برسالة المعلم ومحبته للعلم والتعليم، بدوافع جوهرية مما يأمر به الدين الحنيف من الحث على طلب العلم والإخلاص فيه.
وهنا يدرك الدكتور الدروبي ما كانت عليه سيرة البرقاوي في هذا المسلك، حيث حرص المؤلف على تتبع وتنسيق عدد من الشهادات المعبّرة عن عمق التقدير للبرقاوي وصنيعه، فعلى سبيل المثال يذكر محمد العطيات أحد طلاب البرقاوي كيف كان يتأخر في المدرسة لتعليم من يريد الاستزادة والتوضيح، بل إن هاني خريسات يؤكد أن التعليم عند البرقاوي لم يكن مجرد وظيفة، بل متعة لا تعادلعها متعة من متع الدنيا؛ ولذا أصر على الاستقرار في التعليم وهو في الإدارة، وبعد أن أحيل على التقاعد وتقدم به العمر.. والأمثلة التي تتبعها الدروبي كثيرة.
وفي الحديث عن خلق البرقاوي ومسلكه التعليمي والإداري ؛يؤكد الدروبي من خلاله الخلق الرفيع الذي تحلى به البرقاوي في تعليم طلابه، والروح الأبوية التي تعامل بها معهم، زاهداً في المناصب والألقاب والمكاسب المادية، وفي هذا يبين عيسى الناعوري كيف استمر البرقاوي فارساً مبرزاً في قاعات الدرس أكثر من أربعين عاماً، مثابراً صابراً مضحياً، مع الفقر والخصاصة حتى آخر حياته.. ليرتحل عن هذه الحياة غير مبقٍ لأبنائه شيئاً ماديا ذا بال، اللهم إلا الذكر الحسن، مما جعل العديد من طلابه يسمونه (المعلم الخالد) و (المعلم القديس).
حتى وهو في مرحلة عمله مشرفاً…حيث أكد الدكتور فتحي الملكاوي أنه على الرغم من مضي أكثر من ستين عاماً على مرحلة المدرسة، فقلما تتذكر أحداً من المفتشين. ولكن ذكری البرقاوي المفتش المهيب، ذي الصوت الجهوري والأسلوب الساحر، مازلنا نتذكر سعة علمه وقوة تأثيره في نفوس المعلمين والطلبة. على حد سواء، وندعو له بالرحمة، وهو ما لخصة عبد السلام المجالي رئيس وزراء الأردن الأسبق بالقول: إن البرقاوي -رحمه الله–كان نموذجاً يعز نظيره.
وفي سياق متصل، اقتحم الدروبي أدراج التقارير المحفوظة في الملف المكتوم للبرقاوي في الوزارة ليجد هذا الملف يؤكد على (إخلاصه في عمله، وسلوكه الرفيع، وتوجهاته الوطنية، فضلا عن تقديره للمسؤولية والنظام، وحبه لمهنة التعليم والتفافي في أدائها، وكذلك النشاط وعلو الهمة، وتميزه بتطوير معارفه وتهيئة قدرته على العمل) كما ورد في التقرير…. وهي كلها صفات (المعلم المثالي) حيث استحق بجداره أن يسمى عند طلابه (بالمعلم القديس).
أما لبّ الكتاب وواسطة عقده فقد جعله الدكتور سمير الدروبي في الفصل الثالث، المخصص لجهود البرقاوي في نهضة اللغة العربية في الأردن، تتبع فيه بدقة وبجهد حثيث كل ما صدر من التفاتات ومقولات وإشارات تصب في اتجاه عناية البرقاوي في اللغة العربية والحفاظ عليها، ولعلي ألخّص هذا التتبع التوثيقي بعدد من النقاط تغنيني عن الإطالة:
–
فهمَ البرقاوي خطورة المؤامرة التي تحيق باللغة العربية، حين حاربها الاستعمار بكل ما أوتي من قوة.
–
اتقانه فنون اللغة العربية وفصاحتها وبلاغتها، ومواصلته ونقل ذلك كله (لطلبته وكل من عرفه من الصحبة والأصدقاء) حتى وصفه عبد الحليم عباس بأنه (المفتنّ في اللغة العربية المتبحر في عجائبها).
–
متابعته للنشاط المجتمعي وما تنشره الصحف وتذيعه الإذاعات بما يتعلق باللغة العربية وفنونها.
–
تحصيل اللغة العربية وعلومها من أهم مصادرها، وعلى أيدي أبرز شيوخها في مصر وفلسطين والشام.
–
جعل بيته مدرسة للتعليم لكل من يرغب في علوم اللغة ونحوها وصرفها وسائر فنونها.
–
حبه للغة العربية فتح له الأبواب، على مصراعيها ليعشق تراث أمته وينقله إلى حلبته، وفي هذا ينقل الدروبي من كلام المرحوم الدكتور عبد الكريم خليفة قوله: «فإننا نحيّي فيه جهاد المعلم ومحبته العارمة لتراث أمته وقيمها السامية).
–
تمكنه من اللغة العربية وآدابها جعله كفواً ومؤهلا لينشر مقالاته في أشهر صحف و مجلات ذلك العصر.كالجزيرة، وألف باء، والأردن، والتمدن الإسلامي، وهدي الاسلام، والرسالة وغيرها.
–
كان دائم الحديث عن لغة الصحافة وخطورة دور الصحف والمجلات في النهضة باللغة العربية أو بجلب الويلات لها.
–
كان دائم التذكير بالعلاقة الجوهرية بين اللغه العربية والقرآن الكريم وعلومه المختلفة.
وأكتفي بهذه النقاط الموجزة في عرض جهود البرقاوي في نهضة اللغة العربية والإخلاص لها، مع أن الدروبي اجتهد في أن يروي أكثر من ذلك؛ من خلال ملاحقة حازمة ومستقصية لكل ماله صله بجهود البرقاوي في العناية باللغة العربية تعلماً وتعليما وتأليفاً، وهي طريقة في التوثيق «الاستقصائي» البليغ ؛ أي الذي يقوم على تكثيف عميق لما ينقل من نصوص، أو ما يجرىه من مقابلات، أوما يعود اليه من مصادر على ألسنة طلبة البرقاوي ومعارفه، دع عنك اقتحامه لسجلات مغلقة ومكتومة، راح يستنطقها ليكمل بها حلقات سلسلته.
إذا كانت «السيرة الغيرية» تمثل حشداً عشوائياً من المعلومات التاريخية حول شخصية ما، فإن الدروبي لم يسمح لهذه المعلومات بأن تنسرد عشوائياً أيما اتفق، بل كان يبذل جهداً واضحاً في تنظيميها وتنسيقها لتتسق مع أفكار الدراسة من ناحية، ولتحقق غاية التشويق التي يلحظها كل من يبدأ بقراءة كتاب (حسن البرقاوي) حيث استطاع المؤلف الدروبي أن يجعل من «الأدب الوثائقي» نصاً حكائيا نابضاً بالحياة، بعيداً عن السرد العفوي المحايد، وهذا ما اسميته بـ «جماليات السيرة وبلاغة التوثيق»، فحين يغدو التأريخ لسيرة حسن البرقاوي نصا متجاوزاً?لمجرد التاريخ، ومجاوزاً لحدثية لزمان والمكان، يشعر القارئ بالتأثير الحي لهذه الشخصية وصفاتها وأخلاقها ونبلها ولا محدودة عطائها في أعماق النفس، بل إن القارئ ليلج حالة من التفاعل النفسي مع الشخصية التي يقرأها، متمنياً لو يحقق بعض ما حققته هذه الشخصية أو بالأصح (بطل الرواية) من منجز، يرجو كل منا أن يحقق شيئاً منه ؛ لأن هذا المنجز هو السبب المباشر في خلود هذه الشخصية، وسيرورة ذكرها.
وإذا كان الفصل السابق (الثالث) بمثابة جوهر الدراسة ولبّها، فان الفصل الرابع الأخير جاء نتيجة لسابقة، متناسلا منه، فلا بد للدروبي من أن يبني على ما سبق من جهود لغوية لحسن البرقاوي رأيه في (مقومات الحفاظ على الهوية اللغوية للأمة) فيبين عمق العلاقة بين اللغة العربية والقرآن، وأنهما أساسان لا ينفك أحدهما عن الآخر، وفي هذا يقول الدكتور سمير الدروبي: «عرف البرقاوي الدور العظيم للقرآن الكريم في إثراء العربية، وتوحيد لهجاتها، وفي الارتقاء بأساليبها شعراً ونثراً، وما كان للكتابة العربية أن تصل إلى ما وصلت إليه من ر?ي في الأساليب، وجمال في العبارة والتعبير، لولا قرآنها… ويتابع الدروبي لدعم هذه الأفكار بشهادات طلاب البرقاوي الذين أشادوا بما علمهم أستاذهم من الربط بين علوم العربية وتعلم القرآن وعلوم الدين على وجه العموم».
وبعد ذلك يرصد الدروبي موقف البرقاوي من (قضية التعريب) حيث استقصى–آراءه فيها ليتبين للقارئ كيف كان البرقاوي مؤمنا بهذه القضية، ومحذراً من خطورة طغيان اللهجات العامية، والألفاظ والحروف الأعجمية… ويستحضر المؤلف هنا قصة رواها رياض شريم،أحد طلاب البرقاوي قبيل عام من وفاته أي سنة ١٩٦٨،حيث روى شريم كيف صادف أستاذه يعلق نظره في يافطة كتبت بالإنجليزية، تقبع فوق أحد المحال التجارية في أحد شواع عمان، فبادرته بالسلام، فرد السلام بطريقته الأبوية السمحة، وتمتم بكلمات لم أفهمها…. فسألته ما الخبر؟
فأجاب- رحمه الله–أيعجبك يا أخي أننا صرفنا العمر في الدعوة إلى التعريب، وها هم أعداء العربية يدعون إلى التخريب؟! ومضى يصك أسنانه، ويبدي حسرته.
ويختم المؤلف هذا الفصل بحديث عن متابعة البرقاوي للغة الإعلام، واتباعه الأساليب الحديثة في تدريس العربية، وفي هذا السياق يستشهد بما رواه الشاعر عبد الرحيم عمر- يرحمه الله- حين اتصل البرقاوي بمدير الإذاعة أنذاك – دولة الرئيس التل–معلقاً على أحد البرامج بالقول: » إذا كان بينكم من يستطيع الكتابة عن جبران بهذا المستوى، فإن بينكم أدباء.. ويستنتج الدروبي: «أنه بناء على ما أورد عبد الرحيم عمر فإننا ندرك أن البرقاوي كان متابعاً لبرامج الإذاعة الأردنية، حريصا، أن تقدم بلغة عربية سليمة، بل جعل من نفسه ناقداً أدبياً ل?رامج الإذاعة اللغوية والأدبية ».
وفي جانب تطبيقه لأساليب التدريس التربوية الحديثة يطلعنا الدروبي على وثيقة من وثائق كثيرة تتبعها، وهذه من وثائق مدرسة السلط من عام ١٩٤٢، تشير إلى تقدير المدير للقدرات الخاصة التي يتمتع بها البرقاوي، وكفاءته في تدريس العديد من الموضوعات، التي كان يدرّسها وفق «الطريقة المحورية »، كما استنتج الدروبي.
الذي يسوق حديثاً متماسكاً حول مهاراته التدريسية وكفاءته في تدريس موضوع علوم اللغة العربية والتربية الإسلامية والتاريخ والعلوم والرياضيات وغيرها.
ولكي لا يبقى الدروبي حبيس الإطار الأدبي للسيرة الغيرية، فإنه يحلو له أن يختم دراسته عن حسن البرقاوي بما أسماه (نتائج البحث) التي لخص لنا فيها في خمس عشرة خلاصة تقدّم للقارئ كنه هذا البحث ولبابه.
وبعد ذلك يثبت المؤلف مجموعة من الملاحق والفهارس على عادة أساتذتنا الكبار الذين يبذلون غاية الجهد في بحوثهم ودراساتهم، وغايتهم أن يصل عملهم البحثي إلى الكمال البشري الذي يطمح إليه النخبة من الباحثين والدارسين، وهو ما سعى اليه الاستاذ الدكتور سمير الدروبي في هذا البحث الدقيق في مادته، المبدع في حكايته، البليغ في خطته.
رحم الله الأستاذ حسن البرقاوي، ومدّ الله في عمر الدكتور الدروبي، وحفظنا وإياكم جميعاً.
(أستاذ اللغة العربية في الجامعة العربية المفتوحة)