ترددت على مدار عام وقبلها بقرون مقولة تهوّن من أمر القوى الغاشمة عبر القول إنها «أوهن من بيت العنكبوت». هي حقا كذلك من الناحية الإيمانية، ما دامت المقارنة بين قوى استندت بجبروتها إلى حق القوة -القوة المفرطة الغاشمة- لا قوة الحق، وبين من قام للتصدي لها مقارعا الظلم بالعدل، والظلامية بالنور القائم في جوهره ومظهره على الحق والحقيقة.
وهكذا فإن المنفصل عن الواقع، سواء أكان في برج عاجي أو قابع في سرداب أو سجون الحصن وأسواره الذاتية، إن ذلك المنفصل كما المنبتّ لا هو بقي لصيقا في واقعه، ولا هو انفصم عن عراه، فصار ملتصقا بحبائل أوهامه وما هي إلا خداع للذات، قبل الآخر.
ليست الحرب خدعة عند هؤلاء، لأنهم أبعد الناس عن معرفة إدارة الحروب. من يفشل في إدارة أزمة ويخفق في إدارة شؤون حياته الخاصة أو الأسرية من المستبعد أن يكسب حربا لصالح وطن أو قضية، حتى وإن توهم كسب جولة هنا وآخرى هناك، الأولى واقعية والثانية افتراضية وقد صار الذكاء الاصطناعي الذي أرانا صور «الجولاني» ميتا جراء قصف في إدلب قبل يومين من تداول فيديو للرئيس المخلوع بشار حافظ الأسد يعلن فيه التنحي الذي سارع إلى تكذيبه آخر وزراء دفاع الحقبة الأسدية في سورية، من رأى فقط هذين الشريطين المصورين المفبركين عبر منصات التلاعب بالعقل الجمعي يعلم أننا لم نبتعد -كمتفرجين- كثيرا عن ذلك الذي أقسم أغلظ الأيمان بأنه رأى صورة صدام ب «البيريه» السوداء على القمر ليلة قصف إسرائيل، ومن قبلُ رأى في جارة العراق التي جارت إيران، صورة خميني على القمر ذاته قبل وصوله على طائرة فرنسية من باريس إلى طهران سنة «الشوم» سنة 1979.
بين كل تلك المشاهد لم يتغير المشهد أبدا أو كثيرا إن أردنا ألا نكون متشائلين (متشائمين-متفائلين) في مستقبل سوريانا الحبيبة.
للأسف، لم يخفت فحيح الأفاعي وتبدل جلودها وألوان حرابييها بالتمهيد إلى حد استدعاء ما سموه الربيع العربي في موجته الثانية أو نسخته المعدّلة جينيا. الغريب أن من أعلى تلك الأصوات من شاركوا أو تسببوا بالأزمات التي تسبب كما يقولون بذلك «الربيع» الذي كان محمد حسنين هيكل «الناصري» دائما وما بعد «الناصريين الجدد»، يراه «خريف غضب» إيرانيا دونما الخوض أكثر وأعمق بأسباب تلك الثورات والانتفاضات والاضطرابات والمعارضات التي ثبت أنها لم تكن يوما سلمية وكانت على الدوام إقصائية. بقي الجميع من هم بوزن هيكل وكَتَبَة الموالاة والمعارضة، بقوا بمنأى عن أصل الشرور كلها ألا وهو الكذب على الذات وعلى الآخرين باسم أي قضية كانت.
يوما ما كتبت مقالة بعنوان «ربيع بغداد الخماسيني» أشرت فيها لخطورة الغياب العربي عن الساحة العراقية والاشتباك الإيجابي بما تسبب بكل ما لحق بالعراق منذ الانقلاب على العهد الملكي الهاشمي الزاهر الذي يبكيه العراقيون بحرقة إلى يومنا هذا. لله درك سورية ماذا يلي «شتاء دمشق الخماسيني» فرياح التغيير ما هبّت لتقف عند المحطة قبل الأخيرة لنظ ام الملالي. ولن ترضى الفيحاء ولا الشهباء أبدا استبدال دكتاتور بآخر، ولا ابتلاع ما تقيأته من احتلال عثماني بغيض دام أربعة قرون.
التحرير الحقيقي لا يقبل بالقضاء التام على مقدرات جيش وطن لا عسكر نظام. الثورة ذات الرداء الأبيض وإن كانت يدها مضرجة بالدماء لا تقرع أبواب الغرباء بل تفتح بوابات الحرية والعدالة للجميع دون تمييز على أي خلفية كانت إثنية أو غيرها، فما بالك إن كانت ملامحها تشي بإقصاء الجميع باستثناء لون واحد يسمح له بالتدرج حسب معيار لم يتبدل وهو التمكين عبر التقية والانتهازية وأشياء أخرى.
ليس صعبا -على الأقل على المستوى غير الرسمي- القول إن البديل في أي ساحة كانت يستحق أن يكون الأفضل للبلد المعني ولجواره. ثمة مصالح وطنية أردنية في الصميم لكل ما تشهده دول الجوار. الخير يعمّ والشر بدايته الوهم وهو الوهن والهوان عينه، وما من تعبير مؤلم عن ذلك سوى التغريبة العربية التي فاقت الفلسطينية بمرات ومرات، في عدد من دول «الربيع العربي» اللعين خاصة في سورية ومن قبلها باكورة «الفوضى الخلاقة» في العراق.
من حق وواجب الخارجية الأمريكية البت في إبقاء أو شطب «هتش» هيئة تحرير الشام عن لائحة الإرهاب، لكن من حق وواجب جميع المعنيين تطبيق معاييرهم الخاصة فيما هو آمن وما هو مؤتمن.
مرّ علينا الكثير. صحيح «كل مُرّ سيمُرّ» لكن القرار بأيدينا في حسن تشخيص مصالحنا بعيدا عن الشخصنة، وحساب خطواتنا الوطنية خطوة خطوة، رسميا وأهليا، بعيدا عن الوهم والوهن والهوان.