عروبة الإخباري –
الأنباء اللبنانية نوال الأشقر –
رغم الأهوال التي عاشها لبنان طيلة العام 2024، من استمرار أزمتيه السياسيّة والاقتصاديّة، وصولًا إلى الحرب المدمّرة وتبعاتها الطويلة الأمد، يقفل العام مشهديته الأخيرة على فرصة تاريخيّة، من شأن حسن استثمارها أن تنقل البلاد والعباد من حالة الاضطراب إلى الاستقرار.
نقف جميعا أمام مفترق تاريخي باتجاهين متقابلين، نعي جيّدًا أيّ منعطف علينا أن نسلك، لننجو بوطننا، بعد الدفع به لسنوات طويلة نحو الهلاك، بفعل السياسات الخاطئة واللحاق بركب المحاور. لكن درب الخلاص ليس مزروعًا بالورود، علينا اتخاذ قرارات جريئة، لنعيد بناء ما تهدّم وترميم ما تشظّى في البنية السياسيّة والاقتصاديّة. إتمام الاستحقاقات الدستورية يشكّل مدخلًا إلزاميًّا لولوج مرحلة التعافي، بدءًا بانتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة إنقاذيّة بمهلة معقولة. لكن في الفترة الفاصلة عن تحقيق ذلك، هناك خطوات لا بدّ من اتخاذها اليوم، والبداية من موازنة العامة للعام 2025. كيف ذلك؟
يقول الدكتور محمد فحيلي الباحث في الشؤون الاقتصادية والنقدية لـ “الأنباء الالكترونية”، يمكن لموازنة 2025 أن تشكّل نقطة تحوّل، تواكب انتخاب رئيس جديد للجمهورية وحكومة إصلاح، انطلاقًا من كون الموازنة العامة ليست مجرّد خطّة ماليّة سنوّية، بل هي رؤية استراتيجيّة لإعادة بناء الوطن اقتصاديًّا واجتماعيًّا، وتعزيز الثقة داخليًّا وخارجيًّا، لافتًا إلى أنّ المشروع الموازنة الذي تقدّمت به الحكومة للأمانة العامة لمجلس النواب وفق المهل الدستوريّة، لا يعكس الواقع الجديد، ولا يُقدّم حلولًا كافية، ولو ظرفيّة، لإطلاق عجلة معالجة الأزمة الاقتصاديّة المتفاقمة، في ظلّ التحوّلات الجذريّة التي يشهدها لبنان، بما في ذلك تداعيات الحرب الأخيرة مع إسرائيل، ووضع لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF) “من هنا يجب إعادة مشروع الموازنة العامة للعام 2025، بنسخته الحالية، إلى حكومة تصريف الأعمال لمراجعته وإجراء التعديلات اللازمة عليه، ليتناسب مع المتغيّرات وتبعات الحرب ومتطلّبات إعادة إعمار. وبما أنّ الحكومة الحالية لن تكون مسؤولة عن تنفيذ مواد الموازنة العامة للعام 2025، وما هو مطلوب منها يختلف كلياً، بالشكل والمضمون، عن المتوجب والمطلوب من الحكومة الجديدة، من هنا وجب أخذ هذه الوقائع بالحسبان من قبل حكومة الرئيس ميقاتي ولجنة المال والموازنة والمجلس النيابي، والإشارة إلى ذلك في سياق إقرار قانون موازنة 2025، بما يتيح للحكومة الجديدة إدخال بعض التعديلات إذا إستوجب الأمر”.
ليست أرقامًا.. مرتكزات موازنة الإنقاذ
نجاح الموازنة في إعادة التوازن والإستقرار الإقتصادي والإجتماعي، وبناء الثقة بالاقتصاد اللبناني ومنع الإنهيارات المستقبليّة، يتطلّب ما هو أبعد من الإرقام، بل الارتكاز إلى خريطة طريق استراتيجيّة وتنفيذ إصلاحات جذريّة وشراكات فعّالة، وفق فحيلي “أبرزها إصلاح النظام الضريبي من خلال إلغاء الامتيازات والإعفاءات الضريبية التي ولدت حكمًا من رحم الفساد، وتوسيع القاعدة الضريبية بشكل عادل، وتفعيل العمل بإتفاقية التبادل التلقائي للمعلومات من أجل الحد من التهرب الضريبي (Common Reporting Standard – CRS). ومكافحة التهرب الضريبي وتعزيز الشفافية والرقابة على الأنشطة المالية والتجارية. واعتماد نظام ضرائب تصاعدي يخفف الأعباء عن الفئات الضعيفة ويعزز العدالة الاجتماعية. وتعزيز الشراكة مع القطاع الخاص، وتشجيع المغتربين اللبنانيين على ضخّ استثمارات جديدة في القطاعات الحيويّة، مثل الزراعة والطاقة والبنية التحتيّة. كما يأتي ضبط الإنفاق الحكومي في قائمة الإصلاحات، مع ما يتطلبه من إعادة هيكلة القطاع العام وخفض النفقات وتحسين كفاءة الخدمات العامة. وتوجيه الموارد نحو القطاعات الأساسية مثل الصحة والتعليم، والإستثمار في القطاعات الإنتاجية مثل الصناعة والزراعة والطاقة المتجددة، لتقليل الاعتماد على الاستيراد، وإطلاق مشاريع طويلة الأمد تعزّز الإنتاج المحلي وتوفر فرص عمل مستدامة. ولا يمكن إغفال وجوب إعادة هيكلة وجدولة الدين العام، عبر اطلاق عجلة التفاوض مع الدائنين، للحصول على شروط سداد مرنة. وتطبيق آليات مكافحة الفساد وضمان الشفافية في إدارة المال العام. وتنفيذ إصلاحات شاملة تلبّي متطلبات المجتمع الدولي، خاصة تلك المتعلّقة بمجموعة العمل المالي (FATF)، لتجنّب المزيد من العزلة الإقتصادية”.
ورشة الإصلاح بإرادة الداخل وتعاون الخارج
لتطبيق الرؤية الإصلاحيّة الإنقاذيّة، تحتاج الحكومة إلى إرادة سياسيّة قوية، وتعاون فعّال مع القطاع الخاص، والمغتربين، والمجتمع الدولي (All Stakeholders). كما يتطلب الأمر دعماً من المؤسّسات الدوليّة، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وأيضاً مصارف التنمية الاقتصاديّة في دول الخليج العربي والصين وأوروبا، لتأمين التمويل اللازم ومواكبة تنفيذ الإصلاحات.
في الفترة الفاصلة عن حكومة جديدة مكتملة القدرات والأوصاف تلي انتخاب رئيس للبلاد، هناك تحدّيات كبيرة أمام الحكومة الحاليّة يرى فحيلي ” كل التقدير للرئيس ميقاتي لصموده في ظلّ هذه الضبابيّة والغموض، والفوضى الدستوريّة. والمسؤوليّة الملقاة على عاتق حكومته ليست بقليلة، لجهة التعاون مع الأسرة الدوليّة وحزب الله، لتأكيد حسن تنفيذ القرار 1701 بكل مندرجاته في ظلّ الخرق الإسرائيلي المتمادي، ووجوب إجراء مسح موضوعي ودقيق وشفّاف للإضرار جرّاء العدوان الإسرائيلي من قبل الوزراء المعنيين، وكلّ منهم ضمن إختصاصه، بالتعاون مع البلديات والمنظمات الغير حكومية (NGOs). أمّا الحكومة القادمة فتكون أمام التحدّي الأكبر في ترجمة ورشة الإصلاحات على أرض الواقع”.
بالمحصلة، لبنان الذي عانى من لعنة الجغرافيا طويلًا، لمجاورة طاغية دمشق من جهة، والكيان الاسرائيلي من جهة ثانية، على موعد مع فجر جديد، أن يكون مشرقًا واعدًا لا يتحقّق بالتمنّيات، بل بإصلاح ذواتنا بحكم رشيد والإقلاع عن الزجّ بالنفس في ظلمات الأقاليم.