يدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي أن الرئيس الأميركي المنتخب لن يقبل بأن يطول أمد الحرب الدائرة في غزة ولبنان. لذلك سعى إلى وقف إطلاق النار في لبنان لاسترضاء ترامب وتعزيز موقفه داخلياً، محولاً التركيز نحو إيران لكسب الوقت وتجنب ضغوط متزايدة من الإدارة الأميركية الجديدة بشأن غزة.
* * *
مع اقتراب انتهاء ولاية الرئيس الأميركي جو بايدن ومغادرته البيت الأبيض بعد أقل من 60 يوماً، يبدو أنه عاقد العزم على إحداث تأثير في منطقة الشرق الأوسط، قبل أن يتسلم دونالد ترامب مقاليد الحكم في الولايات المتحدة، في العشرين من كانون الثاني (يناير) 2025.
ومن بين الصراعات الكبرى التي تشهدها المنطق، في غزة ولبنان، وكذلك المواجهة الأوسع التي تخوضها إسرائيل مع إيران، بدا أن لبنان هو الساحة الأكثر سهولة لتحقيق وقف لإطلاق النار -إذا صح اعتماد مثل هذا التقدير بالنظر إلى الطبيعة المعقدة والمتداخلة لهذه النزاعات. ويمكن القول إن جهود الرئيس بايدن لتحقيق السلام في لبنان تقاطعت في نقطة ما مع حاجة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى أن يثبت لجمهوره داخل إسرائيل وللرئيس الأميركي دونالد ترامب أنه قادر على إنهاء صراع قرر الدخول فيه.
الآن ينصب اهتمام رئيس الوزراء الإسرائيلي على السيد المقبل للبيت الأبيض الذي جعل من الادعاء المثير للجدل بأن “أي حروب” لم تنشب خلال فترة ولايته الأولى، عنصراً أساسياً في حملته الانتخابية للعودة إلى المكتب البيضاوي. وقد أكد ترامب، غير مرة، أن لديه القدرة على إنهاء الغزو الروسي لأوكرانيا في غضون 24 ساعة من توليه منصبه، بينما أعرب كذلك عن رغبته في وضع حد للصراع الدائر في غزة.
في الواقع، بينما تظل الولايات المتحدة الحليف الأقوى لإسرائيل، وبعد أن أظهر ترامب أنه لا يهتم كثيراً بالأعراف الدبلوماسية التي تلتزمها معظم الدول في تعاملها مع قضايا الشرق الأوسط، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي يدرك أنه سيحظى بهامش من حرية التصرف أكثر من أي وقت مضى بعد قدوم ترامب. لكنّ عليه أن يعرف كيف يوازن بعناية خطواته لجهة استغلال هذه الفرصة، وتجنب تعقيد الأمور مع دونالد ترامب الذي يُعرف بنفوره من القضايا الشائكة، وبميله نحو تحقيق إنجازات شخصية واضحة يسهل الترويج لها.
لذلك، يمنح إحراز تقدم في لبنان بنيامين نتنياهو وقتاً يحتاج إليه بشدة في هذه المرحلة التي تنتقل فيها السلطة في الولايات المتحدة من إدارة جو بايدن إلى الإدارة الجديدة لدونالد ترامب، والتي يحاول خلالها بعض مساعدي الرئيس المنتخب مسبقاً أن ينسبوا الفضل إلى أنفسهم في وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه بين إسرائيل و”حزب الله”. كما يساعد ذلك أيضاً في تمكن نتنياهو من تخفيف الضغوط عليه داخل إسرائيل. ومن المعروف أن ترامب ينأى بنفسه عن الحلفاء الذين يرى أنهم فشلوا في الحفاظ على مكانتهم، وفي اكتساب الدعم الكافي لأنفسهم داخل دولهم.
وفي المقابل، تشكل الإنجازات المتمثلة في إضعاف قيادة “حزب الله” في لبنان، أهمية بالغة بالنسبة لشعبية نتنياهو في الداخل، التي كانت قد شهدت تراجعاً طوال فترة الحرب في غزة. ومن المرجح أن يكون رئيس الوزراء الإسرائيلي قد أدرك أن مستقبله السياسي أصبح في دائرة الخطر، وأنه قد ينتهي بمجرد أن تضع الحروب التي تخوضها إسرائيل أوزارها بعدما تعرض لضغوط كبيرة قبل الهجوم الذي شنته حركة “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
انطلاقاً مما تقدم، فإن التحدي الذي يواجه بنيامين نتنياهو في هذه المرحلة هو كيف يمكنه الحفاظ على دعم كافٍ من دونالد ترامب، والذي يتيح له إنهاء الحرب في غزة وفق شروطه الخاصة، من دون أن يجبره الرئيس الأميركي المنتخب على اتخاذ قرار بوقفها. ويبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي حدد المسار لتحقيق ذلك، والذي يتمثل في تحويل التركيز نحو إيران.
لقد أثبتت المسيرة السياسية التي سلكها دونالد ترامب أن أسلوب “الثنائيات المتعارضة” يشكل نهجه الأساسي في اتخاذ القرارات. ومن الأمثلة البارزة على ذلك مواجهته الاقتصادية مع الصين، حيث يعتبر محاولات بكين لتقويض القوة الاقتصادية للولايات المتحدة “أمراً سيئاً”، بينما دفاعه عن مصالح الشركات الأميركية هو “أمر جيد”. أما العواقب الأكثر تعقيداً التي قد تنشاً عن الإجراءات التي يتخذها، فيتركها لتكون مشكلة أطراف أخرى (مثل وزارة الخزانة الأميركية أو السلك الدبلوماسي الأميركي). وينسحب المنطق نفسه على طريقة التعامل مع إيران. يدرك ترامب جيداً العداء طويل الأمد بين واشنطن وطهران، ولا يتردد في وصف إيران بأنها عدو، ولا يجد صعوبة في وصفها بالشريرة، والتفاخر بقدرته على تقليص قوتها ونفوذها.
يتعلق جزء من الدوافع التي حدت بنتنياهو إلى السعي إلى وقف إطلاق النار مع “حزب الله”، بإتاحة الفرصة لإسرائيل لتركيز جهودها بالكامل على إيران التي تدعم مجموعة من الوكلاء الإقليميين، مثل حركة “حماس” و”حزب الله” والحوثيين في اليمن، وجماعات أخرى في سورية والعراق. ويبدو أن هذا التحرك موجه أيضاً لاستمالة ترامب. قد لا يبدي الرئيس الأميركي المنتخب اهتماماً كبيراً بتعقيدات الحرب المتفاقمة في غزة، وبالكلف البشرية الناجمة عنها، إلا أنه من المرجح أن ينظر إلى التعامل مع إيران كمسألة أكثر وضوحاً وأقل تعقيداً.
يبقى القول أخيراً إن رئيس الوزراء الإسرائيلي كان أكد، في وقت سابق، أنه يتشارك مع ترامب الرؤية نفسها حيال إيران. ويأمل نتنياهو في أن يستمر هذا التوافق الذي يتيح له تجنب تزايد الضغوط السياسية التي قد يفرضها عليه الرئيس الأميركي الخامس والأربعون والسابع والأربعون في ما يتعلق بموضوع غزة.
*كريس ستيفنسن Chris Stevenson: محرر للشؤون الدولية في صحيفة “الإندبندنت”