حولت إسرائيل “النصر الكامل” إلى مسيحها المخلِّص -وهو خلاص لا يمكن تحقيقه أبداً، ولكنه يملي الحرب الأبدية والدمار كأسلوب حياة.
* * *
يوم الثلاثاء، 26 تشرين الثاني (نوفمبر)، غصت وسائط الإعلام الدولية بمقاطع الفيديو التي تعرض أشخاصاً في لبنان يحتفلون بالأنباء عن وقف إطلاق النار الوشيك بين إسرائيل وحزب الله، والذي دخل حيز التنفيذ فعلياً في وقت مبكر من صباح الأربعاء، 27 تشرين الثاني (نوفمبر).
وكما أوضح تقرير تضمنه أحد أشرطة الفيديو، فقد “جلبت الأخبار لحظة من الأمل والارتياح للمتضررين من الصراع المستمر”.
وقامت بمشاركة مقطع الفيديو نفسه صفحة الـ”إنستغرام” العبرية “Push – Real-Time Reports”، التي تضم أكثر من 860.000 متابع. وأرفَق مشرفو الصفحة المقطع بشرح مختلف إلى حد ما: “الناس في لبنان يحتفلون باتفاق وقف إطلاق النار: ’إسرائيل تستسلم لحزب الله‘”.
وقد تحققتُ أكثر من مرة مع أصدقاء ناطقين باللغة العربية من محتوى الفيديو، وتبين أنه لا يمكن سماع كلمة واحدة عن “النصر” أو “الهزيمة” فيه.
إن كل ما يعرضه هو فرحة الناس بأن الحرب التي دمرت الكثير من سبل حياتهم على وشك الانتهاء -كما هو متوقع من معظم البشر العاديين الذين يعانون من الصراعات في أي مكان في العالم.
غنيّ عن القول إن ردود الفعل والتعليقات على المنشور في صفحة الـ”إنستغرام” المذكورة لم تكن سعيدة. كان الشيء الوحيد الذي احتفلَت به هو تحطيم حياة اللبنانيين. وعبرت التعليقات عن غضب واسع النطاق من الاتفاق الناشئ، مستغلة الاستخدام القاتم لذكرى الجنود الذين سقطوا، وقالت إن موتهم سيكون قد ذهب “عبثاً” إذا تم التوقيع على الاتفاق. في لبنان، كما في غزة، لا يطالب الإسرائيليون بأقل من “النصر الكامل”.
امتد رد الفعل غير المتحمس هذا على احتمال توقيع وقف إطلاق النار مع “حزب الله” إلى ما هو أبعد من حدود وسائل التواصل الاجتماعي. وكان من بين أول من عارضه القادة المحليون وسكان المجتمعات الإسرائيلية الشمالية، الذين ادعوا أن الاتفاق الناشئ فشل في معالجة مخاوفهم الأمنية بشكل كاف.
وعلى سبيل المثال، قال إيتان دافيدي، رئيس منظمة “موشاف مارغاليوت في الجليل الأعلى”، إن أي اتفاق لوقف إطلاق النار يجب أن يشمل شرط إقامة “منطقة عازلة بطول 2-3 كيلومترات، (بحيث) تنتمي هذه القرى (اللبنانية)، التي هددتنا لسنوات عديدة، إلى الماضي”.
على الجانب الإسرائيلي من الحدود، ثمة ما لا يقل عن 28 مجتمعاً داخل دائرة نصف قطرها مماثل لنظيراتها في لبنان -بما فيها مجتمع داوفيدي نفسه- التي كان وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، يوآف غالانت، قد أمر السكان بإخلائها قبل عام. فكيف كانت إسرائيل لتردّ على مطلب لبناني بإنشاء منطقة عازلة على الجانب الإسرائيلي، ومحو هذه المجتمعات من الخريطة؟ لماذا يبدو الأمر طبيعياً وبديهياً بالنسبة للإسرائيليين لدرجة أن مخاوفهم الأمنية تبرِّر مثل هذا التدمير الهائل لحياة الآخرين؟
الآن، بعد مرور أكثر من عام من الحرب التي شردت عشرات الآلاف من الإسرائيليين من ديارهم في الشمال، والتي تصاعدت حدتها بعد غزو القوات البرية الإسرائيلية لجنوب لبنان قبل شهرين تقريباً، يمكن للمرء بالتأكيد أن يتعاطف مع شواغلهم. بالنسبة للكثيرين منهم، كانت هذه الفترة جهنمية، تحطم فيها العمود الفقري لمجتمعاتهم، وتُركوا مدمَّرين اقتصادياً. لكن السكان النازحين كانوا بعيدين عن أن يكونوا وحدهم في العبوس أمام احتمال حدوث وقف إطلاق النار.
في حالة من الذعر المعتدل يوم الاثنين قبل إعلان الاتفاق، سارعت القناة 14، قناة نتنياهو الدعائية، إلى نشر استطلاع للرأي العام يظهر أن 55 في المائة من الجمهور الإسرائيلي يعارضون وقف الحرب في الشمال. وخلال نقاش في الاستوديو، أكد يارون بوسكيلا، الأمين العام لـ”منتدى الدفاع والأمن الإسرائيلي” (المعروف بالعبرية باسم “هابيثونستيم”) أن هناك “معارضة من الجدار إلى الجدار” للاتفاق داخل الناس في مؤسسة الدفاع الإسرائيلية -حتى أنهم وجدوا مواطناً لبنانياً أعلن أن “الجيش الإسرائيلي حقق نجاحات هائلة ويجب عليه القضاء على حزب الله مرة وإلى الأبد”.
كانت معارضة القناة 14 البافلوفية لأي محاولة لخفض التصعيد متوقعة، لكنها لم تكن بأي حال من الأحوال الاستثناء. على سبيل المثال، كان يوسي يهوشوع، المراسل العسكري والدفاعي لصحيفة “يديعوت أحرونوت” الوسطية، غير راض أيضاً. وكتب في رد فعله على الاتفاق الناشئ: “أولئك الذين يحققون نصراً واضحاً هم الذين يملون شروط وقف إطلاق النار، وإذا لم يقبلها الجانب الآخر، فعندئذ تستمر في ضربه، وإلا فإنه ليس انتصاراً، وبالتأكيد ليس انتصاراً كاملاً”.
وفي حين اعترف يهوشوع بأن “قرى بأكملها (في جنوب لبنان) قد سويت بالأرض”، فإنه سرعان ما تساءل: “ماذا سيحدث إذا أراد أحد السكان اللبنانيين العودة وإعادة بناء منزله؟ ولنفترض أنهم يصِلون بملابس مدنية -مَن يستطيع أن يضمن لنا أنهم ليسوا شيعة تابعين لحزب الله، وربما حتى مقاتلين؟”.
مرة أخرى، حاوِل أن تتخيل كيف سيكون رد فعل إسرائيل إذا دعا مراسل صحفي لبناني لوسيلة إعلامية رئيسية إلى تدمير أي بلدة أو مجتمع مدني شَن منه الجيش الإسرائيلي هجمات على أراضيه. لكن يهوشوع وُعد بنصر كامل، وأي شيء أقل من ذلك سيكون وعداً لم يتم الوفاء به.
بطبيعة الحال، سمعتُ ردود فعل مماثلة داخل المجال السياسي، ومن كلا طرفي الطيف. في نداء حماسي إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ناشد وزير الأمن القومي اليميني المتطرف، إيتمار بن غفير، رئيسه: “سيدي رئيس الوزراء، لا ترتكب هذا الخطأ. نحن على وشك تحقيق نصر تاريخي. يجب أن نستمر، نستمر، نستمر”.
وحتى بيني غانتس، المعارض الضعيف الذي دعم كل جريمة حرب خسيسة ارتكبها نتنياهو في غزة ودافع عنه بحماس بعد أن أصدرت “المحكمة الجنائية” الدولية مذكرة توقيف في حقه، اختار الالتفاف على رئيس الوزراء من اليمين، وانتقاد نيته التوصل إلى وقف لإطلاق النار في لبنان. وأعلن: “يجب ألا نقوم بنصف عمل”.طلبت من صحفي فلسطيني صديق لي أن يجمع بعض ردود الفعل من السكان اللبنانيين، وبعضهم من زملائه الصحفيين، حول وقف إطلاق النار المرتقب. قال أحدهم: “نحن نحاول ألا نكون مفرطين في التفاؤل لأنه من المعروف أن إسرائيل غالباً ما تقول لا (لوقف إطلاق النار) في اللحظة الأخيرة. ولكن بشكل عام، الجميع يريد حقاً أن تنتهي الحرب”. وقال آخر: “يعتقد أنصار ’حزب الله‘ أن وقف إطلاق النار سيكون انتصاراً، لكن اللبنانيين الآخرين يشعرون بأن حجم الدمار والموت ينفي أي فكرة عن النصر”.
وقال ثالث: “الناس من الجنوب، من بعلبك والضاحية، يتوقون بشدة للعودة إلى ديارهم”. وقال رابع: “إن شاء الله، في يوم من الأيام قريباً في غزة أيضاً”.
من المدهش كيف أن رد الفعل البشري الطبيعي هذا -الذي يتمنى إنهاء الحرب بدلاً من الاستمرار إلى أجل غير مسمى- ينقلب تماماً عندما يتعلق الأمر بالجمهور الإسرائيلي. من المفترض أن تكون لذلك علاقة بحقيقة أن قادته كانوا يبذلون الوعود، منذ أكثر من عام، بنوع من “النصر الكامل” غير المتبلور.
ولا أحد يعرف بالضبط كيف يفترض أن يبدو هذا، ولكن طالما ظل شيء متبقيًا لتدميره، فمن الواضح أن (النصر الكامل) لا يكون قد تحقق بعد، وسيظل الجمهور غير راض.
اعتاد يشعياهو ليبوفيتز، الموسوعي والفيلسوف الإسرائيلي الراحل، أن يقول “إن المسيح هو الذي سيأتي دائما”، مؤطراً فكرة الفداء والخلاص، حيث الفعل بصيغة المستقبل. هذه هي الوظيفة التي يُفترض أن يخدمها الشوق المسياني في حياة اليهودي: أن يُلزِمنا باستمرار بتصحيح طرقنا تحسباً لوصوله.
وفي تطور مرعب، حولت إسرائيل الحرب والدمار والخراب إلى مسيحها المخلِّص الخاص -وهو خلاص لا يمكن تحقيقه أبداً، لكنه يملي الحرب الأبدية كأسلوب حياة.
*أورلي نوي Orly Noy: محررة في صحيفة “لوكال كول”، وناشطة سياسية، ومترجمة للشعر والنثر الفارسي. وهي رئيسة المجلس التنفيذي لمنظمة “بتسيلم” وناشطة في حزب “بلد”. تتناول كتاباتها الخطوط التي تتقاطع وتحدد هويتها كمزراحية، نسوية يسارية، امرأة، مهاجرة مؤقتة تعيش داخل مهاجرة دائمة، والحوار المستمر بين هذه الخطوط.