أوين جونز* – (الغارديان) 21/11/2024
في حين أن السياسيين ووسائل الإعلام الغربية جعلوا أنفسهم شركاء راغبين في ارتكاب جريمة بشعة واضحة المعالم، فإن أولئك الذين أخذوا ما قاله القادة والمسؤولون الإسرائيليون على محمل الجد واعتبروه تعبيراً عن نوايا صادقة تعرضوا للشيطنة والمطاردة والتشهير والإسكات.
* * *
ليس بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت فقط هما اللذان يجب أن يخشيا المساءلة عن واحدة من أخطر الجرائم في عصرنا. لو لم تصدر “المحكمة الجنائية الدولية” مذكرتي التوقيف الصادرتين في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه السابق -وكذلك القائد العسكري لحركة “حماس”، محمد الضيف- لما تمكَّن النظام القانوني العالمي الذي ينظر إليه قسم كبير من العالم مُسبقاً بازدراء على نطاق واسع من البقاء.
لماذا؟ بسبب حجم الجريمة المزعومة؛ بسبب الكم الهائل من الأدلة، وليس أقلها تلك التي جمعها الصحفيون الفلسطينيون الذين عمل العديد منهم كعيون وآذان للعالم وسط حقول القتل في غزة قبل أن تقتلهم إسرائيل -في كثير من الأحيان مع عائلاتهم؛ ولأن قلة قليلة من الجرائم في التاريخ الحديث اعترف بها الجناة أنفسهم -بل وتفاخروا بارتكابها- من القادة في القمة إلى الجنود الذين أطلقوا العنان لفوضى قاتلة على الأرض.
ولا شك في أن جمع الأدلة المتعلقة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بالحد الأدنى اللازم لإرضاء المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، ولجنة مستقلة من المحامين المحترمين، والآن ثلاثة قضاة دوليين قبل المحاكمة، يدل على قوة القضية -وأن أحداً ممن سهلوا هذا العمل البغيض التاريخي لا يستطيع أن يدّعي الجهل. ليس نتنياهو وغالانت وحدهما هما اللذان يجب أن يرتجفا أمام العدالة: كذلك يجب أن يفعل القادة والجنود الإسرائيليون الآخرون، ومعهم الرجال والنساء المذنبون في الحكومات الغربية.
قد يعتبر البعض أن التهديد بحدوث الاعتقالات بعيد المنال، لأنه يتطلب سفر المتهمين إلى دولة موقعة على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية -التي ليس من بينها، على سبيل المثال، الولايات المتحدة. وربما يتمتع نتنياهو بمستوى من الحصانة في الدول الأجنبية لأنه رئيس حكومة.
ولكن، كما أخبرني فيكتور قطان، أستاذ القانون الدولي المساعد في جامعة نوتنغهام، لا يتمتع الوزير الذي أقيل الآن، يوآف غالانت، بمثل هذه الحصانة. وقال قطّان: “خطوة اليوم غير مسبوقة، لأننا لم نشهد أبداً محاسبة الإسرائيليين على أي شيء فعلوه بالفلسطينيين على مدى الأكثر من 70 سنة الماضية”.
وأضاف أن تقييم القضاة للأدلة المتاحة وتوصلهم إلى أن هناك أسباباً معقولة لإصدار مذكرة توقيف يتحدث عن “جرائم خطيرة للغاية نعلم أنها تحدث وفق أعظم الاحتمالات”.
في الواقع، كان المتهمون صريحين بشأن خططهم لارتكاب هذه الجرائم منذ البداية. ويعرف السياسيون ووسائل الإعلام الغربية التي ساعدت وحرضت على هذه الفظائع ذلك، وهو السبب في أنه يجب اعتبار احتجاجاتهم وادعائهم البراءة مدفونة تحت الأنقاض، إلى جانب العدد الذي لا يحصى من العائلات الفلسطينية المذبوحة.
في البداية، أعلن غالانت أن إسرائيل ستفرض حصاراً شاملاً على سكان غزة، الذين وصفهم بـ”الحيوانات البشرية”، وهو ما ردده أحد جنرالاته البارزين الذي هدد بإطلاق العنان لـ”الجحيم” على السكان المدنيين. وكما خلصت وكالتان حكوميتان أميركيتان قبل سبعة أشهر، فإن إسرائيل حجبت عمداً أساسيات الحياة عن سكان القطاع.
في الأيام التي تلت 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وعد غالانت بأن “غزة لن تعود إلى ما كانت عليه من قبل”. وإذا كان ذلك قد ترك مجالاً للغموض، فقد أعلن: “حماس لن تكون هناك. سنقضي على كل شيء”.
وقال للجنود الإسرائيليين إنه “رفع كل الضوابط” و”أزال كل قيود” عليهم. وكان هذا ما حدث. قتل الهجوم الإسرائيلي ما قدر بعض خبراء الصحة العامة في تموز (يوليو) أنه قد يصل إلى 180 ألف فلسطيني، وبحلول كانون الأول (ديسمبر) الماضي، كان الجيش الإسرائيلي قد دمر بالفعل الكثير من المباني بحيث أصبح لون غزة وملمسها مختلفين عند مشاهدتها من الفضاء. وكثيراً ما نشر هؤلاء الجنود أفعالهم على الإنترنت، وبدوا غارقين في الغبطة ونشوة الانتصار أثناء قيامهم بذلك.
ولم يقتصر الأمر على أن العديد من وسائل الإعلام الغربية فشلت في تأطير تغطيتها حول إعلانات النوايا الصريحة الإسرائيلية فحسب، بل إنها دفنتها، وفشلت في شرح آثارها، وفي كثير من الحالات لم تقم بتغطيتها على الإطلاق، ببساطة.
قام السياسيون الغربيون بتسليح هذه الجريمة الموعودة عن طيب خاطر: عرضت إدارة بايدن مساعدات بقيمة 12.5 مليار دولار منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وفي الآونة الأخيرة كان بلده الوحيد في مجلس الأمن الدولي في استخدام حق النقض ضد مشروع قرار يدعو إلى وقف لإطلاق النار. كما أعلن البيت الأبيض مسبقاً “رفضه المبدئي” لقرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات الاعتقال. وقالت إسرائيل إن نتنياهو “لن يستسلم للضغوط” في الحرب ضد “حماس” و”محور الإرهاب” الإيراني. وأشار غالانت، في وقت سابق، إلى مذكرات التوقيف على أنها تصنع تماثلاً “حقيراً” بين إسرائيل و”حماس”.
وعندما علقت حكومة حزب العمال البريطاني أخيراً بعض مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل في أيلول (سبتمبر)، فإنها تركت 92 في المائة منها سليمة لم تمس ووقفت عند هذا الحد للتأكيد أن إسرائيل ما تزال حليفاً حميماً.
في حين أن السياسيين ووسائل الإعلام الغربية جعلوا أنفسهم شركاء راغبين في ارتكاب جريمة بشعة واضحة المعالم، فإن أولئك الذين أخذوا ما قاله القادة والمسؤولون الإسرائيليون على محمل الجد واعتبروه تعبيراً عن نوايا صادقة تعرضوا للشيطنة والمطاردة والتشهير والإسكات. حسناً، لنكن واضحين هنا. إن هذه الجريمة ببساطة فاسدة جداً، وفاحشة جداً، وهائلة جداً، بحيث لا يمكن ألا يواجه المتواطئون فيها المساءلة.
لكنّ الآن هو الوقت المناسب لإسناد الفضل المناسب والمستحق لشعب فلسطين الذي طالت معاناته. وكما أخبرني الباحث في مجال حقوق الإنسان الدكتور ألونسو غورمندي، فإن “هذه خاتمة لعملية طويلة بدأتها القيادة الفلسطينية في أوائل العام 2010″، مشيداً بنجاح الفلسطينيين في “استخدام القانون الدولي لتعزيز تحريرهم”. وكما أشار أيضاً، فإن قرار إصدار مذكرات الاعتقال يمكن أن يكون تغييراً جذرياً، حيث “سيتم وضع المعايير المزدوجة والتزام الغرب المشروط بالقانون الدولي في أعلى اختبار أمام الجنوب العالمي الناشئ”.
ثمة قضية منفصلة، بالطبع، تقودها جنوب أفريقيا، في “محكمة العدل الدولية”، تسعى إلى إثبات أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية. ولكن لأي شيء أن يخرج من تحت أنقاض غزة، فليكن هذا. إن هجوم الإبادة الجماعية الإسرائيلي هو المثال الأكثر فظاعة الذي يُظهر كيف أن التفوقية الغربية تضج بالنفاق البشع. فلنجعل المساءلة تعني ألا يكون ارتكاب مثل هذه الفظائع ممكناً مرة أخرى.
*أوين جونز Owen Jones: صحفي وكاتب عمود في صحيفة “الغارديان” البريطانية.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The ICC arrest warrants must bring an end to Israel’s atrocities – and true accountability for all the guilty