مازالت الحياة تعلمنا أن «خير جليس في الزمان كتاب» وهو كما اختيار «الرفيق قبل الطريق»، فكيف إن كانت بعض الكتب في منزلة «الجار قبل الدار».
هذه فترة مواسم وأعياد مباركة. الناس تحب في نهاية مرحلة وبداية أخرى التهادي. «تهادوا تحابّوا» كما في الحديث النبوي الشريف، فكيف إن كانت الهدية كتابا قد يعمل على تحسين قدرات القارئ أو رفع مستوى حياته الشخصية والمهنية.
أكرس هذه المقالة ليس للحض على تهادي الكتب أو إعارتها، ولا الحث على قراءتها، بل أكرّسها لثلاثة معايير لاختيار الكتاب، جميعها لا علاقة لها بالمؤلف ولا حتى بالموضوع أو العنوان، فالحكمة تقضي بألا نحكم على كتاب من غلافه أو حجمه أو فخامة أو أناقة تصميمه وإنتاجه أو الجهة الراعية والمسوّقة له. بعض الكتب -قديمها وحديثها- منفوخة فارغة وبعضها مظلومة رغم دسامتها وعظمتها.
أول هذه المعايير، التوقيت. أن يقرأ الكتاب لأوانه، فحتى التربية والتعليم لفلذات الأكباد لها أوانها، وبالتالي أدواتها ومفرداتها. تبقى القيم والمبادئ راسخة مصانة، لكن لكل جيل لغة يفهمها. سأدّخر الأمثلة لما بعد استكمال المعايير. وثانيها هو فهم الحاضر واستكشاف المستقبل عبر ما كتب الكاتب في الماضي القريب أو البعيد، خاصة إن كان قبل تحمّل المسؤولية في القطاع الخاص أم العام. كثير من تلك القراءات تضع مفردات -كالتوقعات والنهج أو آلية العمل والروح المحركة للقرارات الصغرى والكبرى- تضعها في أماكنها الحقيقية، بعيدا عن لغة الإنشاء وفذلكات الدعاية والإعلان أو الإعلام.
أما المعيار الثالث وقد يكون الأكثر حسما والأصعب منالا فهو إعادة قراءة كتاب، أو البحث عن درّة مكنونة أو جوهرة سقطت من يد من عرف قيمتها في وحْل الأيام، وحْل الحياة اليومية.
وأبدأ بهذا المثال الأخير، ثمة كتب -نحبها أم ندين مضمونها أو كاتبها- بحاجة إلا إعادة قراءة متأنية حتى نفهم الحاضر ونحذر من تكرار الماضي في المستقبل. من المفيد مثلا، تذكّر مجموعة مختارة من مؤلفات متطرفين غلاة صاروا إرهابيين وعلى النقيض منهم كتب خبراء مكافحة الإرهاب لفهم أحداث عنيفة مرّ ويمرّ بها الجوار غربا كان أم شمالا أم شرقا. من تلك الكتب -وسأتفادى عمدا ذكر عنوانها أو كاتبها- الكتب التي أسست لتقسيم العالم كله إلى معسكرين، وأخرى طعنت الأوطان في الظهر والخاصرة والصدر. والصادم أن كتيبات هدمت ما شيدته كتب مرجعية وأبحاث موثقة محكّمة، بسبب انتشار ثقافة الكتب والصحافة الصفراء وبعض المؤلفات الرائجة فقط في الأزقة والسراديب لا الأكشاك أو الأرصفة، حتى وصلنا لحاويات المنصات «المْتَكْتَكِه» بمؤثراتها الفنية الخاوية أو الزائفة، وأكثرها سجالا ورواجا تلك «التوكتكية»!
كيف نلوم بعض الناس على وقوعهم ضحايا التضليل والتغييب ونسمح بما هب ودب بمزاحمة الخطاب الثقافي والإعلامي الرصين؟ تجوب شوارع وسط المدينة -أي مدينة- في «بلاد العرب أوطاني» فترى جماهيرالمقاهي والركاب وحتى المشاة محاصرين بضخ إعلامي من خارج المكان والزمان أيضا! ويتساءلون من بعدُ عن نتائج انتخابات واستطلاعات رأي ودراسات لماذا تأتي بما تقشعر له الأبدان أحيانا، وما هي إلا نتاج السكوت عن كتب حروب وأزمات سابقة ما زالت متاحة ولم تسحب من الأسواق مثلها مثل الأطعمة الفاسدة التي انتهت صلاحيتها. الكلمة أخطر وأهم من رغيف الخبز، كما قال السيد المسيح الذي نحتفل قريبا بميلاده المجيد «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان».
من تجربتي، ثمة متعة وفائدة مضافة عند الحرص على قراءة الكتببشكل متزامن، خاصة إن تم الجمع بين القديم والحديث أو القراءة بلغتين أو بمواضيع مناسبة لأوقات القراءة، فثمة ما هو أكثر فائدة صباحا، وثمة ما هو أنسب لقراءة ما قبل النوم.
قراءة كتاب «حارس النهر» لمؤلفه سعود الشّرَفات من نشامى المخابرات العامة المتقاعدين ساعدني على فهم مدى خطورة «إسكات التاريخ» وكيف يحاربك أحيانا ليس فقط العدو وإنما القريب أو الصديق الجاهل الذي يصر على تزوير الأحداث وإسكاتك ومصادرة حقك في الكلام لتفنيد ودحض ما حاصرته من أضاليل.
كما كل عام، حرصت الصيف الماضي على دعم مكتبتي الوطنية في واشنطن بكتب أردنية كتّابا وموضوعات ورسالة. وقد كان من حسن ظني تتويج القسم الخاص بالمذكرات الوطنية لرجالات الأردن الكبار بمذكرات سمو الأمير زيد بن شاكر طيب الله ثراه وكتب مقامه في عليين. وكذلك كتاب دولة رئيس الوزراء دكتور جعفر حسان «الاقتصاد السياسي الأردني، بناء في رحم الأزمات..» تختلف المتابعة للبيان الوزاري التي على أساسها نيل ثقة مجلس النواب، عندما يقرأ الكتاب المشرعون أو ناخبوهم الذين من حقهم أن تكون لهم مطالب اقتصادية وسياسية، وكذلك الحال بالنسبة لغير الأردنيين من الأصدقاء و»الأعدقاء» والأعداء سيفهمون -من هذين الكتابين وكتب أردنية أخرى كمذكرات رجالات الوطن البناة وملوكه العظام- سيفهمون الخطوط الحمر عندما يتعلق الأمر بالمبادئ والقيم التي قامت عليها الإمارة فالمملكة، كالسيادة والكرامة..
ليت «أمة اقرأ» انتسابا أو ثقافة، ليتها تقرأ قبل أن تصدر الأحكام. فكثير مما نحن فيه درهم الوقاية فيه وقنطار علاجه في القراءة. القراءة بمعاييرها ومواقيتها المقترحة أعلاه.