عروبة الإخباري – نزهة عزيزي –
رن الهاتف مرتين ثم ثلاث ثم أربع يبدو أن المتصل يصرعلى إيقاظي من يتصل على الثانية صباحا ؟رغم إنغماس وجهي في الوسادة لتجاهل الرنين، أخرجت رأسي من تحت البطانية واذا بصوت سهام يأتيني من مونتريال ويقطع نعاسي المشتت.
-توحشتك متى تأتين لمونتريال؟! واش راكي ؟
كانت سهام دوما دافئة الصوت لم يخرب برد مونتريال نبرته.
أجبت محاولة لملمة شعري المشعث فوق الوسادة : – مازال ماكتبش ربي عزيزتي..واش راكي المريولة ؟ تنسين دوما فارق الساعات بين فرنسا وكندا !
هكذا كنت ألقبها منذ أن عرفتها في وكالة الاشهار حيث عملنا مع بعض في حياة سابقة . أضفت : كيف حال نور ورياض ؟!
-بخير، لقد قرأت آخر روايتك ، مازلتي تكتبين بنفس التمرد وقتاش تستعقلي!
قهقهت تحت الغطاء لأني أحب دوما مشاكستها : – كي نكبر!
سمعتها تضحك ورحت أتخيل شفتاها الممتلئتين والتي كانت تضع عليهما معظم الوقت أحمر شفاهها المفضل Chanel rouge de المثير. كانت سهام فاتنة بنعومة ملفتة وبراءة طفلة لم تكبر، رغم سنين غربتها السبعة عشر في كندا، في درجات برد خيالية كفيلة بأن تلحق العطب بأي حنين إلى وطن في الشق السفلي من الكرة الأرضية .
قالت: ياجدك أنتي خمسينية ومازلتي تحلمين بقصص الحب ونهايات الحب السعيدة ! والله النهايات السعيدة في السينما فقط وفي الروايات اللي تكتبيها !
قلت بصوت محشرج: لماذا لا تحبين النهايات السعيدة هناك فعلا نهايات سعيدة رغم نذرتها
قالت : لم أتصادف معها في حياتي كي تشوفي واحدة أخبريني بها.
ضحكنا معا وعاد الزمان بنا أيام الحب الاول والنبض المجنون والتيه اللذيذ في أزقة الابيار وبن عكنون إلى شوارع العاصمة الجزائر الى البهجة التي تسككنا ولا نسكنها .
صمت ..
قلت : بكل صدق سهام هل نسيتي “مومو “؟
أحسست بنبرة صوتها تنخفض: نعم كان ذلك في زمن الخبل والطيش، كنت صغيرة ولا أعرف شيء عن الحياة.
قلت بإستفزاري المعهود : درك عدتي تفهمي كل شيء ههههه ….
كانت سهام تعرف أن العناية الإلهية وضعتني في طريقها كي أنقذها من حب أتى على الأخضر واليابس في حياتها، ودفعتها الأقدار لقطع تذكرة لمنتريال حيث إستقرت وتزوجت وأنجبت نور ورياض حصيلة إنتصارها على الخيبة،وفتحت باب النسيان على مصرعيه للبرد كي تموت آخر فيروسات الحب التي أصابتها في الجزائر.
– أريد نسخة من روايتك هديل الذاكرة بإمضائك سلميها لمراد ،هو بباريس سيعود لمنتريال بعد يومين.
مراد الذي ساقه القدر إليها في التوقيت المناسب ليلملم الخراب الذي قبعت فيه لأعوام في إنتظار ” مومو” عربيد الأحلام. هكذا كنت أسميه وكان يزعجها أن ألقبه كذلك إلا أنها كانت تدرك في قرارة نفسها أن الأوغاد يمكن أن يكونوا أبناء عائلات لاغبار على صمعتها.
أحبت مومو بكل عنفوان شبابها وجمالها الذي طير عقول رجال لهثوا خلفها دون جدوى
بعد أن إستحوذ مومو على عقلها وقلبها.
لما تعرفت عليها لأول مرة في مكتب وكالة الاشهار “نسمة” حيث إلتحقت بفريق العمل ككاتبة محتوى، أعجبت بأناقتها وبإطلالتها المميزة كانت أنوثتها طاغية في جسم ممشوق، فرس، متوحش يصعب إستدراجها،رغم شعرها القصير جدا،لم تكن مقولة الشعر الطويل نصف الجمال تنطبق عليها، بل قصتها الذكورية زادتها إثارة وجاذبيته يصعب للجنس الخشن مقاومته.
كانت سهام عاشقة حتى الثمالة وقد نزلت بها وعود مومو بالزواج إلى قبو اليأس، تقيأت كل أطباق الحكمة التي ناولتها إياها على أمل أن يعود إليها رشدها ولم يعد. حاولت بشتى الطرق أن أقنعها أنه يواعد أخريات وأنه لن يطلق زوجته ليرتبط بها فنسبه مع عائلة زوجته محاولة أخرى لتسلق الوجاهة، صمعة بائع الخمر نسيب الجنرال في مجتمع لا يعترف إلا بالعسكرفي السلطة.
كان لمومو قدرمن الجاذبية ، شعر أسود وأعين غائرة تنم عن غرور وسحر لا تدركه إلا الساذجات من النساء، بنبرة صوت مبحوحة تذيب جليد أي مقاومة لفتنته. متحدث ومغازل من الطراز الاول بلكنته الفرنسية ولباقة حديث الصالونات التي تعلمها حتما عن أم منحذرة من الطبقة المخملية العاصمية.
لما دعتني أول مرة لتعرفني به أدركت من الوهلة الأولى أنه زير نساء،حدسي الانثوي قل ما يخطىء.كان المطعم الذي دعانا إليه بالعاصمة غيرلائق وكدت أن أستقل سيارة أجرة لأعود لبن عكنون إلا أن نضرة سهام إستجدت بقائي كمن يبحث عن مظلة في يوم غزير المط. كنت أشعر أن قلبها يبحث عن الإحتماء من سحر مومووغطرسته، كانت فرس مروضة أمامه ، خلعت خوذة توحشها بالكاد عرفتها ونحن نجلس حول طاولة العشاء التي دعانا إليها بكل زهو وفخر. سقط الشموخ والجموح الذي كانت تشهره أمام كل المعجبين بها. ورحت أكتشف هذا الرجل الذي صدعت رأسي بالحديث عنه طيلة سنة كاملة. وصدقت كلمات أغنية لطفي بوشناق حين غنى “لاموني غارو مني قالو لي واش عجبك فيها قلت اللي جهلوا فني خذوا عيني شوفو بيها ” وللاسف لم أكن أرى بعين سهام العاشقة المتعلقة بل بعين أخت تريد أن تلف قلب أختها في زجاج مقوى يصعب إختراقه.كان علي أن أعيد سفنها الضائعة للميناء، أدركت للحظتها أن لاخلاص من مخالب العشق إلا العناية الإلهية.كنت أخاف أن يحدث لها ماحدث لبطلة فيلم سكر بنات ليال التي تحولت إلى عشيقة يائسة في إنتظار أن يترك عشيقها زوجته. كان ممكن أن يتزوج مومو سهام في الخفاء وكنت أريد لإستحقاقها أن يكون أعلى، قدمه مومو من أنصاف حب وبقايا إهتمام.
رغم كونه من عائلة ذات نفوذ، لكنه كان عربيدا سكيريتاجر بالخمر ويملك أكبر خمارة في البلد ، وله تاريخ حافل مع النساء ، إصطادها بكل عناية. ويحدث أن يحب الأنذال بنات العوائل الكبيرة لينتقمو ربما من مجتمع خنذقهم في خانات، ووضعهم في قوائم من لا يستحب صحبتهم لمجرد أنهم تجار خمر، في مجتمع محافظ لا يغفر الإختلاف. كانت سهام بالنسبة لمومو تمثل كل الاضضاد التي يحبها ، هادئة ، فاتنة، مثقة، أنيقة، ومن عائلة عريقة بماضيها الثوري،بينما أتهم جده بالخيانة وأنه “إبن فرنسا ” كما يقول شيوخ مدينة سيدي راشد .
كنت أرى سهام واقعة في شباكه،عصفورة أحبت سجانها وأردت لها أن تتحرر من قصة حب مؤذية، ربطتني بها منذ الوهلة الأولى عاطفة أخوة زادت من تعاطفي معها، خفت عليها من الانكساروالشتات الحاد لأنها كانت تشبه قارورة زجاج مورانوالثمين شديد الهشاشة وباهض الثمن .يصعب على رجل مثل مومو تقييمه لأنه رجل من دركات سفلى رغم ثرائه ،عنيف ويحصل على مايريد بشتى الوسائل وحتى بأحقر الطرق. سمعت أنه يعنف زوجته لكنه كان وديعا معها لدرجة مقلقة. كنت أرمقه دائما بنظرة حذرة، لانه حاول مرار النيل من صداقتنا لكنه لم يفلح.فبقيت مصدر قلق بالنسبة له ، نصحتها بتركه لأشباهه لكنها كانت عمياء ترفض أن ترى أخطائه وتجد أعذار لسلوكه المتغطرس.
قطعت سهام حبل أفكار ذكرياتي وقلت : أتذكرين يوم عقدت قرانك مع مراد ؟! يوم سألتك : هل مازلت تقابلين مومو؟ أجبتي بحدة : إنها مجرد ورقة يا سناء ورقة فقط ، أتذكرين كيف صرخت في وجهك:
-بل ميثاق غليظ أمام الله والبشر تبا لقلبك ! عديني أنك لن تضعفي أمام ملاحقة مومو لك
إنه الله ياسهام بعث لك مراد لتبدئء صفحة جديدة ،مراد طيب ويحبك بصدق، إبن عائلة سافري إرحلي عن مدينة موبوئة به وبذكرياته.
بعد يومين جاء مراد لمكتبي ليأخذ الرواية ، وكتبت في صفحته الاهداء الآتي
إلى سهام أخت قلبي
إلى نور ورياض
إن ثمار الحب لا تأتي إلا بعد العواصف الهوجاء، ولا يبقى من الذاكرة إلا هديلها
إما أن نشفى منه أو نشقى به.
مع حب الكون كله.
سهام طرابلسي