عروبة الإخباري – بقلم: لطيفة حسيب القاضي
تُعدُّ الحكاية الشَّعبيَّة جزءًا مهمًّا من التُّراث الثَّقافيِّ للشُّعوب؛ لأنَّها تُعبِّر عن تفاوتِ الثَّقافات حول العالَم، وتُسهم في التَّعريف بهُويَّات الأمم؛ فتعمل على وصف جوانبَ محدَّدةٍ في الحياة الإنسانيَّة والأحداث التَّاريخيَّة والجغرافيَّة التي شهدتها منطقةٌ ما، والتي قد تكون غير موجودة في سجلات التاريخ المكتوب.
ومن هذا المنطلق؛ تتنوع الحكايات الشعبية في موضوعها وأساليبها؛ فأحيانًا تحمل رسائل وحكمًا حياتيَّة، والهدف منها توجيه الناس وتعليمهم قيمًا وأخلاقيات، وتعمل على توعيتهم بالقضايا الاجتماعية، حيث تُعدُّ أداة ثقافية تعليمية تلهم حياة الأفراد وتثيرها بمختلف أعمارهم وثقافاتهم، وتضيف دورًا مهمًّا في تعميق الفهم للقارئ أو السامع للمعاني والدروس المتضمَّنة فيها؛ فهي متأصِّلة في الثقافة الشَّعبيَّة للمجتمع الذي تأتي منه الحكاية.
جاءت الحكاية الشَّعبيَّة في أشكال أدبيَّة مختلفة، كالرواية والقصة القصيرة والمسرح، وهنا فإن القصة هي التي تقوم بتوظيف الحكاية؛ لأنها تملك خصائص المكان والزمان، فيقوم الكتاب بتجسيد الحكاية الشعبية في أعمالهم الإبداعية.
تعريف الحكايات الشعبية:
الحكاية: هي نوع من أنواع الأدب الشعبي التعبيري، واسترجاع للواقع بواسطة الكلمة وتصور للحدث، فهي عملٌ إبداعيٌّ قادرٌ على تشكيل صورة مرئية خيالية. الحكاية قصة ينتجها الخيال الشعبي الفلسطيني حول حدثٍ ما، وهذه القصة يستمتع الشعب بروايتها، حيث يتم تداولها شفهيًا مِن جيل إلى آخر مع تعدد رواياتها وعدم معرفة اسم مؤلفها، وأحيانًا تكون هذه القصص مبنيَّة على الخيال، والبعض الآخر ينطوي على جزء من الحقيقة المغيبة. من هنا نجد فاعلية البطل في الحكاية الشعبية التي تعكس صراع الإنسان مع واقعه وتفاعله معه. بمرور الزمان أصبحت الحكاية جزءًا لا يتجزَّأ من أعراف المجتمع الفلسطيني وتقاليده وتراثه الشَّعبي المخزون، ولها تأثير كبير على المتلقِّي في طريقة سردها.
نشأة الحكاية الشَّعبيَّة:
تعدَّدت الأراء حول نشأة الحكاية الشعبية؛ فينسبها البعض إلى قدماء المصرين؛ استنادًا إلى النقوش الفرعونيَّة التي على جدران المعابد والأديرة المصرية التي تشير إلى وجودها عند المصريين القدماء منذ القدم متمثِّلة في حكايات: السحر، الحيوان، الصدق والكذب وغيرها. في حين تعتبر المجموعة القصصية “ألف ليلة وليلة” من أشهر المجموعات القصصية العربية التي حصلت على شهرة واسعة في كافة الدول العربية في القرن الرابع الهجري والعاشر الميلادي.
وتأتي الحكاية عندما يجتمعون فيما بينهم ليرووا الحكايات الشعبية، ويتسامر بها الناس في ملتقياتهم في الليالي الرمضانية، وفي المقاهي واللقاءات النسائية في الأماكن العامة، فيتسارع الكبار والصغار إلى استماع الحكايات الشعبية؛ الأمر الذي أدَّى إلى تداول هذا التراث في البلاد العربية. أخذ المهتمون بالتراث الشعبي في تدوين جميع الحكايات الشعبية المتداولة حتى القرن السادس الهجري، ثم ظهر بعد ذلك مؤلفو الحكايات مثل: خطط المقريزي، بدائع الزهور لابن إياس، وتم تداولها في جميع أنحاء العالم.
في بداية الأمر كانت الحكاية الشعبية تقوم على الإبداع الفردي لراوٍ مجهول، ثم عبْر الزمن أصبحت أدبًا جماعيًّا يعكس الروح الجماعية من خلال قصاص؛ وهو الذي يصون حياة الحكاية الشعبية، ويسبغ عليها طابعًا شخصيًا محبَّبًا، فيقوم بتنميقها؛ فيكون للبيئة التي يعيش فيها أثر كبير على الحكاية، فكان يضيف للحكاية ما يتوافق مع أفكاره ومع القيم الاجتماعية السائدة وترسيخ القيم الأخلاقية في أذهان النَّاس، ويحذف منها ما لا يتوافق وطبيعة المجتمع؛ وعلى ضوء ذلك تتَّسع الحكاية الواحدة أو تنكمش.
في بادئ الأمر نشأت الحكاية الشعبية على أيدي الرواة؛ فلم تلق اهتماما من قبل الطبقات الخاصة، ولكن العامة احتفظت بها لتضفي عليها صفة الشعبية. في الوقت نفسه كان يستسقي الرواة الحكايات من البيئة التي كانوا يعيشون فيها. فيلتفت الراوي إلى ميزات معينة لقصة في بيئة أخرى، ويأخذ منها ما يتلاءم وبيئته ومجتمعه، ثم يأتي راوٍ آخر ويعمل على تنقية الحكاية من أثر البيئة الأولى حتى لا يبقى منها إلا الوقائع الأساسيَّة فيها.
ومن الملاحظ أن حكايات اليوم متشابهة إلى حدٍّ كبير من حكايات الأمس؛ ذلك لتشابه العناصر الحضارية المتوارثة منذ القدم. ومع مرور الزمن تراجع الاهتمام بالحكايات الشعبية؛ نظرًا لوجود الإنترنيت والراديو والتلفاز والسينما، فلم تعد كالسابق، وتماشيًا مع ما تم ذكره اعتمد مؤتمر اليونسكو الذي عقد في عام 1997م للحكاية الشعبية الفلسطينية بأنها واحدة من روائع التراث الشفهي للإنسانية، وهذه الشهادة الدولية والعالمية تعزز وتشهد بأنَّ الشعب الفلسطيني شعبٌ متجذِّر وعريق، وصاحب تراث أصيل، وله خصوصيته، وأن هذا التراث لا يمكن طمسه أو تجاهله؛ إنَّه التراث الشعبي الفلسطيني الممتدة جذوره في أعماق التاريخ.
خصائص وأنماط الحكاية الشعبيَّة الفلسطينيَّة:
يُعَدُّ عنصرُ الوراثة عنصرًا أساسيًّا للحكاوي الشعبية الفلسطينية؛ حيث كانت وما زالت الحكاية الشعبية تتناقل وتتردد على ألسنة الكثير من أبناء الشعب الفلسطيني؛ فالحكاية تلقي الضوء على البطل، وتبتعد عن كُلِّ التفاصيل التي لا تفيد الحدث، بالإضافة للمرونة والتجديد في الشكل والمضمون؛ حيث إن الراوي يضيف إليها أو يحذف منها، ويعدل بعض العبارات ومضامينها تبعًا لموقف وظروف بيئته الاجتماعية، من هنا تعتمد الحكاية الشعبية على المصادفات المقصودة والمرتبة مسبقًا، وهنا يبرز عنصر التشويق، وتسير الأحداث لتكون في صالح البطل في النهاية دون ترتيب مسبق.
وعليه؛ فتأتي الحكاية بشكل عفوي مخترق لحواجز الزمان والمكان لتبقي في الذاكرة الجماعية؛ حيث تتميز الحكايات الشعبية الفلسطينية بعروبتها، وتعكس البيئة الفلسطينية المتمثلة في اللهجة والعادات والتقاليد والأعراف، وهذا ما يميِّزها عن التراث الشعبي العربي. وفي هذا السياق تتنوع أنماط الحكاية الشعبية الفلسطينية تبعًا لاختلاف مضمون الحكاية؛ لأن الحكاية هنا تخدم جوانب الحياة التي يعيشها الإنسان، وتكشف عن جماعات الشعب الكادحة، وبعض الحكايات تكشف عن الصراع الطبقي وعلاقات الجماعات الشعبية بعضها ببعض.
تزخر الحكايات الشعبية الفلسطينية بحكايات عن: القيم الأخلاقية والحياة الزوجية والخيانة والصديق والكسب الحلال والإخلاص واحترام المرأة والطفل، وكل هذه الحكايات تعزز المبادئ الأخلاقية والتعاون والوفاء.
ومن زاوية أخرى توجد حكايات الحيوانات التي تتحدث وتقوم بأفعال الأدميِّين؛ وهنا تكون الحيوانات هي الشخصية الرئيسة في الحكاية؛ بغية تفسير ظاهرة أو حقيقة لا يستطيع أن يفهمها الإنسان البدائي، وتحمل مغزى الوعظ عن طريق الرمز (الحيوان) كشخصية رئيسة في الحكاية. وهناك حكايات ترفيهية تحمل مغزى تعليميًّا وإرشاديًّا، وتعمل على تنمية الخيال والتفكير. بالإضافة للحكايات الخرافيَّة القائمة على مستوى رفيع من الإبداع، فتعتمد على الخيال، وهنا تُركِّز الحكايات على البطل وليس الحدث، فتبتعد عن الواقع إلى عالم خاص لا حدود له، هنا تكون الحكاية مليئة بالمعاني والأفكار؛ لذلك يتناولها الأجيال عبر الزمان من خلال فكر الراوي وتصوراته وعلاقته بالمحيط عن طريق الرمز. وهناك الحكاية المسلية، مثل الأحدوثة التي تدور حول البطل أو البطلة لتحمل في طياتها التخفيف من ضغوطات الحياة ليجد فيها الفلسطيني متنفسًا في وضع سيئ فرضته عليه الأوضاع التي يعيشها، لا سيما لتعزز الصمود والتمسك بالهوية الفلسطينية لمواجهة التحديات والتعرف على ثقافتنا وجذورنا وعُرفنا عبر التاريخ، ولكنها لا تخلو من النزعة التعليمية التي تثري ثقافة المتلقي وتعزز القيم الإيجابية، وتعمل على مجابهة القيَم السَّلبية في المجتمع.
المرأة في الحكاية الشعبية الفلسطينية:
أسهمت المرأة الفلسطينية في تشكيل جوانب الصورة العامة للمرأة في المجتمع الفلسطيني، واحتلت مكانة إيجابية من خلال علاقتها بزوجها والأبناء والمجتمع؛ من هنا عكست الحكاية قدرة المرأة على تجسيد فاعليتها في الحياة إلى جانب الرجل؛ كونها مركزًا مهمًّا من مراكز الحكاية.
تنوعت صورة المرأة في الحكاية الشعبية الفلسطينية تنوعًا خصبًا يتناغم ويتسلسل ليعطي الحكاية ثراء جميلًا؛ إذ شكلت المرأة ركيزةً أساسية في التناسل والمحافظة على بقاء الأفراد والعنصر المحرك للأحداث، وتأتي صورة الأم في مقدمة صور المرأة؛ فالأم احتلت مساحة واسعة من الحكاية الشعبية الفلسطينية؛ لأنها تجمع بين صفات ثلاث لا تتحقق كلها إلا فيها: “فالأم ابنةٌ لرجل، وزوجةٌ رجل، وأمٌّ لأبناء”. علاوة على ذلك فإن الإنسان القديم كان يعتبر المرأة رديفًا للأرض الخصبة المثمرة.
اتَّسمت الأم في الحكايات بإعلاء القيَم العليا والعلاقات الأسرية كما في حكاية “الأم الحنون”؛ إذ تجد الأمُّ ألمًا وتعبًا في تربية أبنائها بعد فقدها لزوجها. ونجد حكاية الأم التي تخرج عن طبيعتها؛ ففي حكاية “الشاطر حسن” فضَّلت الأم عشيقها، وحاولت التخلص من ابنها لتتمكن من تحقيق رغباتها الجنسية المحرمة. وتجدر الإشارة إلى دور العلاقات الأخوية في الحكايات فتبرز بصورتين: إيجابية وسلبية، كما ظهر في الكثير من الحكايات، كما في حكاية “الطير الأخضر” التي تنطوي على علاقة الإخوة مع الأخوات التي لا تخلو من عنصر الغيرة.
وفي نفس الصدد تظهر زوجة الأب في معظم الحكايات متسلطة وظالمة، تحاول دائمًا التخلص من أبناء زوجها؛ ربما يكون ذلك انعكاسًا للمثل الشعبي القائل: “زوجة الأب سخطة من الرب لا بتحب ولا بتنحب”، كما في حكاية “بقرة اليتامى”. ومن هنا تأتي صورة الضرائر في أغلب الحكايات الشعبية صورة قائمة على الصراع والاستحواذ على الزوج، وكذلك الكراهية، ونادرًا ما نجد العلاقة بينهما علاقة طيبة وعلاقة ود واحترام.
من أهم العلاقات التي عالجتها الحكاية الشعبية الفلسطينية علاقة “الحماة والكنة” في العلاقات الزوجية، إذ يشكل الزواج نقلة نوعية للأم “الحماة”، و”للفتاة الكنة” فهما بذلك يدخلان علاقة جديدة، فيبدأ الصراع بين القطبين المتناحرين؛ الحماة والكنة، وهنا يعتبر العداء بين الحماة والكنة أمرًا مفرغًا منه، فهذه الظاهرة موجودة في مجتمعنا والمجتمعات الأخرى منذ أقدم العصور، وهذا يظهر بوضوح في حكاية ” صحيح لا تكسري” تعكس الحكاية جبروت الحماة على كنتها حتى في القوت اليومي.
لا جرَمَ أنَّ للحكاية الأثر الكبير على المرأة الفلسطينية؛ حيث شكلت من خلالها تراث هذا الشعب بوجود الكم الهائل من الحكايات الشعبية التي تشتمل على معظم جوانب أمورها الحياتية، فكانت معبِّرة عن ملامحها وسماتها الشخصية؛ ولذلك علينا كفلسطينيين أن نعيد قراءة التراث الشعبي الفلسطيني؛ لنعيد تأسيس جيلٍ واعٍ مُلمٍّ بثقافته وتراثه وهويته؛ لأنه سلاحٌ مُهمٌّ في مواجهة الاحتلال الصهيوني.