أحياناً يخاطبنا البعض وكأننا لا نعرف البلد، نحن نعرفها جيدا يا صديقي.. أنت من لا يعرف الأردن.. سأخبرك عن الأردن.
هل جربت يوما حين كنت طفلا، أن تتناول شوربة العدس مع البصل.. وأثناء انهماكك بالأكل، تقضم حصوة صغيرة ظلت مع (العدس) ولم تخرج وطبخت.. وأثناء قضمها يخرج الصوت، وتشعر بألم في (طاحونتك) لا يعادله ألم.. ويبادلك الجميع الضحكات لأنهم مروا بالتجربة، من لم يجرب قضم حصوة مع شوربة العدس فاته الكثير من التاريخ الاجتماعي للدولة.
هل جربت يا صديقي.. أن تكسدر في (حوش الدار)، وتشاهد رصيد العائلة الوطني من (جركنات الكاز).. وهي مختومة بحرفين (ج ع) أي: الجيش العربي.. وتسأل لماذا والدك دائما يصر على تفقدها حتى في الصيف، ويعتبرها مخزونا وإرثا مرتبطا بالعائلة، ولماذا كل منازلنا في الكرك تحتوي على هذه (الجركنات).. هل شاهدتها؟ صدقني منذ وفاة والدي، منذ (23) عاما ما زالت مركونة.. في الدار، مقتنيات الجيش لا يعتريها الخراب تبقى صامدة.
هل تعرف يا صديقي.. (الصفط)، في كل منزل من منازلنا كان هنالك (صفط) للخياطة، وأثناء المشاجرات الطلابية التي أشارك بها، وأخسر المنازلة في المجمل، كنت أعود للمنزل وقد تقطعت كل أزرار القميص، وأكذب الأمر على أنه كان نتيجة القفز عن سور المدرسة، (الصفط) كان يحضر.. والرصيد العائلي من الأزرار كان وفيرا، لم تكن أمي تهتم باللون.. كانت أزرار معظم قمصاني ملونة، المهم أن يكون هناك (زر).. كانت تخيطها ليس (بالإبرة) بل بالحب والأمومة.. كنا نعرف وقتها أن (الأزرار) لا تحمي صدورنا.. هو الأردن وحده من يحمي الصدر.
هل جربت يا صديقي أن توكل لك جدتك مهمة غاية في الخطورة، وهي البحث عن دجاجة هربت من الخم، وتطوف حول المنزل.. جدتي كانت تهتم لدجاجاتها وتقوم بإحصائها كل مساء، قبل الدخول (للخم).. وفي لحظة تكتشف أن الدجاجة تعرضت للدهس، وتخاف أن تخبر جدتك بالأمر وتقول لها: إنها ربما هربت إلى (خم) مجاور ومنافس، وأني أجريت تحريات مكثفة، وسأعيدها فورا.. من لا يعرف يا صديقي طعم البيض البلدي حين يطبخ بالسمن البلدي، لا يعرف التاريخ الاجتماعي حتما.. لا يعرف قرى الوطن وأريافه.
هل جربت يا صديق مواسم (الدلف).. والمعالجات الخطرة للمشهد، والتي تتطلب استشارة (طوبرجي خبرة)، كي يقدم توصيات ملحة وصارمة.. ويتم تنفيذها على الفور، يا صديقي (دلفت) أسطحنا كثيرا، لكن سقف الضمير والقلب ظل صامدا.. حملوه أكثر مما يحتمل وبقي صامدا عزيزا..
ماذا جربت من حياة الأردني يا صديق؟.. هل عرفت ليالي الشتاء مثلنا، وكيف نلتف حول الوالد، وهو يقوم بشواء (الكستناء) لنا، وتحترق نصف أصابعه.. ويبقى (ينفخ) فيها حتى تبرد، الوالد يقبل أن يحترق إصبعه، مقابل أن لا يكتوي لسانك بحرارتها.. هل جربت، كيف كان يضع تحت مخدتك (نصف دينار).. وحين تصحو في الصباح تعتبر الأمر سراً خطيراً بينك وبينه ولا تخبر أحداً في المنزل كي لا يغاروا منك..
وتقول لي يا صديقي: (انت مغرق في أردنيتك).. أنا لست مغرقا في أردنيتي، أنا منغمس فيها حتى آخر شعرة في رأسي، ولا أريد الخروج منها.. وصدقني أن طعم الحصى في (شوربة العدس) أشهى من طعم الحياة في عواصم الدنيا كلها.. فقد علمتنا هذه البلد أن نلوك الحصى..
دلني على شعب يطحن الحصى بفمه، ويمضي غير مكترث غير الأردني.
صدقني يا صاحبي أنت لا تعرف البلد مثلي.