في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر)، وضع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أمام اللبنانيين، خياراً صعباً: “انهضوا واستعيدوا بلادكم قبل أن تقع في هاوية حرب طويلة الأمد تؤدي إلى دمار ومعاناة كالتي نراها في غزة”.
وقبل أن يلقي نتنياهو خطابه بفترة وجيزة، زار وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، لبنان، في محاولة لرفع معنويات “حزب الله”. وفي غضون أسبوع واحد، منذ بداية الهجوم الإسرائيلي الشامل في أواخر أيلول (سبتمبر)، قضت سلسلة من العمليات العسكرية المتتالية على عدد كبير من قادة الحزب وأعضائه. وأسفر القصف الإسرائيلي العنيف عن مقتل وجرح آلاف اللبنانيين وتهجير أكثر من مليون آخرين، بما في ذلك داخل بيروت نفسها، فيما أخذ ساسة البلاد يضغطون باتجاه التوصل إلى وقف لإطلاق النار. ولكن، بدا بأن زيارة عراقجي أحبطت تلك المساعي. وبعد بضعة أسابيع، أعلن رئيس البرلمان الإيراني محمد قاليباف، في مقابلة مع الصحافة الفرنسية، استعداد إيران للتفاوض على وقف لإطلاق النار مع فرنسا نيابة عن لبنان. ويعد “حزب الله” ربيب إيران، وهو أقوى لاعب في لبنان، بل أقوى من الجيش اللبناني نفسه. وبدا واضحاً من كلام كل من عراقجي وقاليباف أن القتال لن ينتهي قبل أن تأمر إيران بذلك.
وكشف خطاب نتنياهو وزيارة عراقجي إلى أي مدى أصبح لبنان مركز الحرب بالوكالة بين إيران وإسرائيل، إذ يمثل البلد أوضح حلبة صراع بين البلدين على النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، ولذلك استقطب دوره في الصراع بينهما اهتماماً دولياً كبيراً.
لكن النقطة التي يجري التغاضي عنها هي تداعيات هذا الصراع على مستقبل لبنان نفسه. وقد يصح القول إن الحرب عصفت بالبلد في أسوأ وقت ممكن؛ إذ يمر لبنان بفترة جمود سياسي حال دون انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ووصل الوهن والضعف بقوى أمنه الداخلي إلى درجة أرغمت المجتمعات الأهلية والأفراد على اللجوء إلى خدمات الحماية الشخصية الخاصة التي غالباً ما تربطها صلات بالأحزاب السياسية الرئيسة. وما تزال الدولة تعاني بشدة في معالجة ذيول انفجار مرفأ بيروت في 2020، الذي تعتبره المنظمات الدولية -ومن ضمنها “هيومن رايتس ووتش”- أحد أضخم الانفجارات غير النووية في التاريخ. وما يزال البلد واقعا في براثن أزمة اقتصادية ومالية مستمرة منذ خمس سنوات سحقت الطبقة الوسطى وضاعفت معدلات الفقر بصورة هائلة، من 12 في المائة في العام 2012 إلى 44 في المائة في العام 2022 (وهو آخر عام تتوفر عنه بيانات).
لكن الأهم هو أن نظام المحاصصة الطائفية، أو تقاسم السلطة، الذي يحكم لبنان يعني أن الدولة منقسمة كذلك بصورة كبيرة على أساس طائفي، حيث تمثل الأحزاب السياسية الطوائف المختلفة. ويعمق القتال مع إسرائيل هذه الانقسامات. ومع الوقت، قد ينقلب مواطنو البلد من المسلمين السنة والمسيحيين ضد مسلميه الشيعة الذين يشكلون نحو ثلث سكانه ويشكلون قاعدة الدعم لـ”حزب الله”. كما يزعزع القتال التوازن السياسي الداخلي في لبنان. وترى بعض الشخصيات والأحزاب اللبنانية التي كانت مستاءة من هيمنة “حزب الله” فرصة سانحة وفريدة من نوعها لإعادة تشكيل الديناميات السياسية في لبنان، بحيث ترجح كفتها بدرجة أكبر.
هذه مرحلة خطرة بالنسبة للبنان. ويشهد ماضي البلد على كيف تلجأ مختلف الفصائل فيه إلى العنف لتسوية خلافاتها، وتشكل الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 15 عاماً خير دليل على ذلك. لكن البلد قادر على تجنب اندلاع حرب أهلية إذا شرعت فصائله، ومنها “حزب الله”، في حوار وطني يطرح مسار التقدم المستقبلي ويقدم رؤية شاملة للبلاد. ومن المفترض أن تجمع بين هذه المكونات مصلحة مشتركة هي تأمين الاستقرار لمؤسسات البلاد، إذا لم يجمعها أي شيء آخر. وهي في حاجة إلى دعم المجتمع الدولي -من أجل وقف الاعتداءات الإسرائيلية الوحشية.
عاصفة مثالية
يدور القتال بين إسرائيل و”حزب الله” منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2023 حين شن “حزب الله” هجوماً عليها بهدف إسناد غزة (كما فعلت مجموعات أخرى يتماشى خطها مع خط “حماس”). لكن هذه الاشتباكات ظلت محدودة معظم العام، واقتصرت إجمالاً على عمليات اغتيال استهدفت فيها إسرائيل أعضاء في “حزب الله” وغارات جوية طاولت مخازن السلاح التابعة للحزب وغيرها من المواقع المرتبطة به. وفي المقابل، أطلق “حزب الله”، بدوره، صواريخ عبر الحدود الإسرائيلية مع لبنان. وخلال هذه الفترة، قتل زهاء 430 عنصراً من “حزب الله” إلى جانب عشرات المواطنين اللبنانيين العاديين، ومن بينهم ثلاثة صحفيين. وأرغم نحو 60 ألف مواطن إسرائيلي يقطنون شمال البلاد على الفرار من المنطقة. وفر في لبنان ما يقرب من 90 ألفاً من سكان البلدات والقرى من القصف الإسرائيلي.
لكن القتال تحول، بعد مرور 11 شهراً، إلى حرب شاملة، وفشل رهان “حزب الله” على إبقاء الصراع محدوداً. وحدث هذا التحول على حين غرة، من خلال سلسلة عمليات صادمة وقعت يوم 17 أيلول (سبتمبر) وبلغت حد اغتيال قيادات عسكرية رفيعة المستوى في “حزب الله”، تبعها اغتيال أمين العام الحزب، حسن نصر الله، في 27 أيلول (سبتمبر). وبعد أيام قليلة، قتلت إسرائيل كذلك خليفته المفترض، هاشم صفي الدين. وأطلقت إسرائيل حملة قصف جوي شعواء على البلد، ونقلت جنوداً إلى الشمال. وفي الأول من تشرين الأول (أكتوبر)، بدأت في اجتياح بري للأراضي اللبنانية.
خلفت الاعتداءات الإسرائيلية تبعات كارثية. خلال الشهر الماضي، تعرضت أحياء سكنية ذات كثافة سكانية عالية تقطنها غالبية شيعية في ضاحية بيروت الجنوبية إلى قصف متكرر. ونتيجة لذلك، تعرضت 100 ألف وحدة سكنية إلى التدمير الكلي أو الجزئي، فيما تشير التقديرات إلى أن 37 بلدة وقرية في جنوب لبنان سويت بالأرض بسبب الضربات الجوية المتواصلة. واستخدمت إسرائيل الفوسفور الأبيض، وهي مادة كيماوية سريعة الاحتراق تشتعل فور تعرضها للأكسجين، في انتهاك للقانون الدولي، فدمرت بيئة المنطقة وأراضيها الزراعية. وتقدر غرفة تجارة بيروت انكماش الناتج الإجمالي المحلي في لبنان بنحو تسعة في المائة هذا العام، بينما يقدر البنك الدولي الخسائر الاقتصادية المباشرة التي راكمها البلد (بما فيها كلفة الأضرار المادية) بنحو 8.5 مليار دولار. وخسر نحو 166 ألف شخص وظائفهم. واعتباراً من 18 من تشرين الأول (نوفمبر)، قاربت حصيلة القتلى 3.481 شخصاً، فيما بلغ عدد المصابين 14.786 شخصاً. وهُجر نحو 1.2 مليون شخص يشكلون 20 في المائة من سكان لبنان، في غضون أربعة أيام، ونتجت عن ذلك أزمة إنسانية عارمة. ويعيش 19 في المائة فقط من بين هؤلاء النازحين في ملاجئ تمولها الحكومة. أما الباقون، فإما يستأجرون بيوتا أو يسكنون مع الأقارب أو الأصدقاء، أو تدعمهم المنظمات غير الحكومية أو يفترشون الطرقات. ونظراً إلى حجم الدمار، لن يتمكن معظم هؤلاء من العودة إلى منازلهم بعد نهاية الصراع ويرجح أنهم سيظلون عالقين في هذا الوضع لسنوات، مما يضع ضغطاً إضافياً على كاهل البنية التحتية في لبنان، وعلى كاهل المجتمعات المضيفة لهم والموارد بصورة عامة.
في 29 تشرين الأول (أكتوبر)، أعلن الجيش الإسرائيلي تحقيق أهدافه العسكرية في لبنان، لكنه لم ينسحب من البلاد لأن أهداف الحرب الإسرائيلية تغيرت كما يبدو. كان السبب الأصلي الذي دفع إسرائيل إلى اجتياح لبنان هو السماح للمواطنين الإسرائيليين النازحين بالعودة إلى منازلهم. والآن، بدل الرغبة في إعادة السكان فحسب، يعد نتنياهو بإحلال نظام إقليمي جديد، وبتغيير “الواقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط”، بحسب تعبيره، في نهاية تشرين الأول (أكتوبر). وبغية تحقيق هذا الهدف، تسعى إسرائيل إلى تحطيم شبكة حلفاء ووكلاء النظام الإيراني -المسماة “محور المقاومة”- التي يشكل “حزب الله” عنصراً أساسياً فيها. وهذا يعني أنه في غياب الضغوطات الخارجية واتفاق لوقف إطلاق النار، قد تستمر إسرائيل في القتال في لبنان على المدى القريب على الأقل.
ولا تقتصر آثار الاعتداءات الإسرائيلية على الأضرار الإنسانية والاقتصادية فحسب، وإنما تعمق الانقسامات الطائفية كذلك. وعلى الرغم من استعراضات التضامن العلنية بين طوائف البلاد، بما فيها تلك الصلاة المشتركة التي أداها رجال الدين في لبنان على ضحايا هجوم مروع طال بلدة أيطو الشمالية، تزداد حدة التوتر بين النازحين والمجتمعات المضيفة لهم. وتشعر غالبية اللبنانيين بالاستياء من جرها إلى صراع لم يكن لها أي رأي فيه ولم ترد أن تكون جزءاً منه. وما يؤجج هذه التوترات هو الهجمات الإسرائيلية التي تستهدف مناطق اعتبرها معظم اللبنانيين آمنة بسبب تركيبتها الطائفية المختلطة وعدم ارتباطها بـ”حزب الله”. وفي هذه الأماكن هدمت الصواريخ الإسرائيلية مباني سكنية بأكملها، زاعمة أنها كانت تسعى إلى قتل شخص معين. وعلى سبيل المثال، تعد أيطو منطقة تسكنها غالبية مسيحية استهدفت فيها إسرائيل مبنى كان يضم عائلتين من النازحين. وزعمت أنها فعلت ذلك بهدف قتل مسؤول من “حزب الله” مكلف بتوزيع المساعدات المالية على النازحين. وأسفر الهجوم عن مصرع 24 شخصاً، بينهم 14 امرأة وطفلاً. لكن هذه الضربات العشوائية غير ضرورية أبداً: كما أظهرت عمليات الاغتيال الموجهة العام الماضي، تمكنت إسرائيل من اغتيال أفراد محددين مع إيقاع أضرار جانبية ضئيلة نسبياً. لكن ذلك لم يوقف الجيش الإسرائيلي. وبسبب خطر وقوع مزيد من هذه الضربات، أصبح الكثير من اللبنانيين يخشون استضافة النازحين الشيعة.
فرصة سانحة
ليست إسرائيل وحدها هي التي تؤجج التوتر بين مختلف الجماعات الدينية في لبنان. إن “حزب الله” مسؤول عن ذلك أيضاً، حيث بسطت المنظمة نفوذاً كبيراً على لبنان، وأثارت الامتعاض بعد توسيع دورها في الصراعات الإقليمية، ولا سيما في سورية. كما أثارت غضباً واسعاً بسبب استعدادها لنشر قوتها العسكرية وبسط نفوذها السياسي داخل البلاد من أجل حماية مصالحها والحفاظ على الوضع القائم.
كثيراً ما شكل نفوذ الجماعة معضلة محلية. بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في العام 2000، وخروجها من أماكن احتلتها طوال 22 عاماً، أمل عدد كبير من اللبنانيين أن يسلم “حزب الله” سلاحه. لكنه رفض ذلك، مصراً على ضرورة احتفاظه بالسلاح من أجل مقاومة إسرائيل. (من المهم ملاحظة أن إيران وسورية لم ترغبا في أن يتجرد الحزب من سلاحه أيضا). ومنذ ذلك الوقت، استخدم “حزب الله” ترسانته لقتال إسرائيل، بما في ذلك خلال الحرب الدموية التي دارت في العام 2006. لكنه استخدم قوته العسكرية كذلك من أجل إخافة جماعات أخرى في لبنان، وحتى الدولة اللبنانية. ووفقاً للنتائج التي توصلت إليها المحكمة الدولية في لاهاي، تم اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في العام 2005 على يد عناصر في “حزب الله”. ويُعتقد بأن المنظمة مسؤولة عن سلسلة من الاغتيالات السياسية الأخرى التي استهدفت ساسة ومفكرين بارزين. ومنذ العام 2019، لعب “حزب الله” دوراً فاعلاً في إعاقة الإصلاح وحماية الوضع القائم في البلاد. وبينما استفادت كل الأحزاب السياسية في لبنان بلا استثناء من سوء إدارة مرفأ بيروت وضعف آليات المحاسبة فيه، وهي عوامل سمحت بانتشار الفساد، يشك البعض في ضلوع “حزب الله” في تخزين أكثر من 2000 طن من نترات الأمونيوم هناك، وهو ما تسبب في انفجار العام 2021. وبعد ذلك، رأى البعض أن الحزب يعرقل التحقيق في الحادثة، مما ضاعف الغضب ضده وعمق التوترات الطائفية. وترجمت هذه التوترات بأحداث محلية جرى فيها تبادل للنيران مع الطوائف السنية والدرزية والمسيحية.
خلال فترة الاضطراب هذه، حافظ “حزب الله” على سلطته ونفوذه، لكن صراع المجموعة مع إسرائيل أضعفها. ومع أن المنظمة وراعيتها إيران ما تزالان تحاولان تعزيز مواقعهما المستقبلية على أرض المعركة في جنوب لبنان، خسر “حزب الله” قيادة التحكم والسيطرة، بما فيها قادته الكبار كافة والآلاف من مقاتليه، ونحو 80 في المائة من ترسانته العسكرية التي خزنها ضمن نطاق 40 كيلومتراً من الحدود اللبنانية مع إسرائيل، كما يقول الجيش الإسرائيلي. وجاء مقتل نصر الله ليسدد للحزب ضربة قاسية: فهو لم يكن الأمين العام للحزب فحسب، بل كان لاعباً إقليمياً يؤثر في سير التطورات في العراق وسورية واليمن، وكان شخصاً مطلعاً وموثوقاً في إيران. وبوفاته، أصبحت إيران ضالعة بصورة أكثر مباشرة في إدارة النشاطات العسكرية لـ”حزب الله” وموقعه السياسي، وسيكون من الصعب جداً على “حزب الله” أن يعيد بناء قدراته العسكرية خلال السنوات المقبلة، ولا سيما مع استمرار إسرائيل في ضرب خطوط إمداده في سورية.
نجاح “حزب الله”
في استعادة التوازن
تسعى أحزاب سياسية مختلفة في لبنان اليوم، يُلاحظ أنها أحزاب ذات أغلبية مسيحية، إلى استغلال حالة الوهن الظاهرية التي تصيب “حزب الله” من أجل إعادة رسم الخريطة السياسية في لبنان. في السادس من تشرين الثاني (نوفمبر)، أعلن سمير جعجع، زعيم حزب القوات اللبنانية -وهو حزب بأغلبية مسيحية مارونية- وأحد المرشحين للرئاسة الجمهورية، أن فريقه جاهز لانتخاب رئيس للبلاد من دون مشاركة الطائفة الشيعية. وكرر جعجع، إلى جانب نواب آخرين، طلباً لبنانياً طويل الأمد بنزع سلاح “حزب الله”.
يدرك “حزب الله” جيداً أنه كلما طال أمد حربه مع إسرائيل، ازدادت الضغوطات التي سيواجهها من اللبنانيين -بمن فيهم الآلاف من ناخبيه الذين خسروا كل شيء. وقد وافقت الجماعة على وقف لإطلاق النار مع إسرائيل حتى قبل اغتيال أمينها العام. وجاءت موافقتها على الرغم من عدم وجود وقف لإطلاق النار في غزة، وهي نقطة كان يعتبرها في السابق شرطاً أساسياً. وقال حلفاء “حزب الله”، ولا سيما رئيس مجلس النواب، نبيه بري، إن الحزب مستعد أيضاً للقبول بتطبيق قرار الأمم المتحدة رقم 1701 الذي أنهى صراع العام 2006 بين لبنان وإسرائيل. ويدعو القرار الطرفين إلى احترام الحدود الإسرائيلية – اللبنانية، كما يدعو إسرائيل إلى وقف طلعاتها الجوية العسكرية فوق لبنان (وهو أمر تشبثت إسرائيل برفض تطبيقه)، و”حزب الله” إلى الانسحاب من الحدود إلى ما وراء نهر الليطاني في جنوب لبنان. ويدعو القرار الدولة اللبنانية نفسها إلى تطبيق اتفاقات الطائف – الاتفاقات المبرمة في العام 1990 التي أنهت الحرب الأهلية في لبنان- وقرارين سابقين صادرين عن الأمم المتحدة، هما 1559 و1608، يطالبان بنزع سلاح “حزب الله”.
لكن كل ذلك لا يعني أن “حزب الله” سيستسلم. ربما خسر أعداداً كبيرة من العناصر العسكرية ومن إمدادات السلاح، وخسر كذلك بعض بنيته المالية، لكنه انطلق أساساً من موقع قوي. وعلى حد تعبير بريت هولمغرين، القائم بأعمال مدير “المركز الوطني لمكافحة الإرهاب”، فإن “حزب الله أصبح ضعيفاً، لكنه لم يخرج من الحلبة”. بل تمكن الحزب في الواقع من استعادة توازنه. ومن الناحية العسكرية، سمح الغزو البري الإسرائيلي لـ”حزب الله” بأن يرسخ خطاب المقاومة. وما يزال يتمتع بوجود سياسي لا يستهان به، من ضمنه وجود 13 نائباً عنه في البرلمان اللبناني وشبكة من المنظمات غير الحكومية التي تقدم مجموعة واسعة من الخدمات الاجتماعية لناخبيه.
كما أصبح لديه جيل جديد وأصغر سناً من القادة الذين تمرسوا في المعارك بعد اختبارهم القتال في سورية. ويعد هذا الجيل إلى حد ما أكثر تشدداً من الناحية العقائدية من الجيل الذي سبقه، حيث قامت خبرته تماماً على مفهوم بناء “مجتمع مقاوم” ينشره “حزب الله”. وتابع أفراد هذا الجيل دراساتهم في مدارس المنظمة، وانضموا إلى فرقها الكشفية وتابعوا وسائل إعلامها. وتنهمك وسائل الإعلام التابعة للحزب، من ناحيتها، في محاولة حماية موقع الجماعة. وتصف هذه الوسائل الإعلامية كل شخص ينتقد دور المنظمة في الصراع مع إسرائيل بأنه خائن، وتعمل على إعادة التأكيد على هوية “حزب الله” باعتباره الممثل الأساسي للطائفة الشيعية في لبنان. وتصب وحشية إسرائيل وحملات التدمير الواسع التي تشنها في مصلحة هذه المنصات الإعلامية بينما يتعاظم الغضب من سلوك إسرائيل في أوساط لبنانية مختلفة، بما فيها بين أعتى أعداء الحزب في الداخل.
تضافر القوى
لن يكون من السهل تأسيس مستقبل أفضل للبنان. لم يتعافَ القسم الأكبر من القيادة الحالية للبلاد من آثار حرب لبنان الأهلية التي دارت بين العامين 1975 و1990، ويتعامل بحذر شديد إزاء تعزيز الاستقطاب الطائفي بغية تلافي أخطاء الماضي. ولكن، لا شك في أن بعض هؤلاء الزعماء يرون في هذه اللحظة فرصة سانحة لإعادة تشكيل التوازن السياسي في البلاد، وربما إصلاح الاختلالات السياسية بين مختلف طوائفها. ومع ذلك، سيجعل انتخاب رئيس جديد لا يحظى بموافقة “حزب الله” الطائفة الشيعية المحاصرة التي أنهكتها المعارك تشعر بمزيد من الإقصاء والتهميش في ظل النظام السياسي الجديد في لبنان. وقد تنتج عن ذلك ضروب من الصراعات والاضطرابات. ويحتمل أن تعود البلاد إلى حقبة الاغتيالات السياسية، أو حتى حقبة الفوضى وعمليات الاختطاف في ثمانينيات القرن الماضي.
بغية تفادي ارتدادات أعمال العنف على الحدود الإسرائيلية – اللبنانية في الداخل، على الأحزاب اللبنانية أن تتعاون مع بعضها بعضا وتخرج بخريطة طريق من أجل إعادة وضع البلد على المسار الصحيح. وعليها انتخاب رئيس من دون تأخير، وتعيين رئيس وزراء جديد وتشكيل حكومة طوارئ هدفها البدء في حوار سياسي شامل وواسع النطاق حول مسار لبنان وإعادة بناء مؤسسات الدولة وكذلك المناطق التي دمرها الصراع. ويجب أن يضم هذا الحوار أيضاً أعضاء رئيسين من الشبكات المدنية المسيسة في لبنان، فضلاً عن الناشطين الرئيسين في البلاد، الذين يمثلون تيارات مهمة داخل المجتمع اللبناني.
ويجب أن يتضمن جدول أعمال هذا الحوار الوطني نقاطاً عدة، أولاها وعد اللبنانيين بمستقبل أفضل عبر صياغة رؤية للبنان تشمل خطة لبناء الدولة من أجل حل المشكلات التي تواجه الاقتصاد السياسي في لبنان. ويترتب على الحكومة أيضاً في هذا الإطار تطبيق خطة لإدارة النزوح، بما أن عشرات آلاف الأشخاص سيجدون أنفسهم عاجزين عن العودة إلى منازلهم لسنوات عدة على الأقل بسبب حجم الدمار. وبموجب هذه الخطة، يسمح للمواطنين اللبنانيين بالوصول إلى حساباتهم البنكية التي هم في أمس الحاجة لها، والتي جمد معظمها منذ بداية الأزمة المالية في العام 2019. ويجب أن تساعد هذه الخطة بصورة خاصة نحو 70 في المائة من المودعين الذين يمتلكون أقل من 100 ألف دولار في حساباتهم.
كما ينبغي أن يمهد الحوار الطريق أمام تطبيق لبنان اتفاق الطائف بعد طول انتظار. وقد أسس الاتفاق مجموعة معقدة من آليات تشارك السلطات، ودعا كذلك إلى حل ميليشيات البلاد. لكن “حزب الله” احتفظ بسلاحه بموافقة رئيس الجمهورية اللبناني. واليوم، في أعقاب الحرب الراهنة، أصبحت ترسانة “حزب الله” موضوع خلاف أكبر في البلاد. ولكن، من أجل دفع “حزب الله” إلى التخلي عن سلاحه، يحتاج لبنان إلى استراتيجية دفاع وطنية تدمج قوات المجموعة في الجيش الوطني. ويمكن أن يبنى هذا الحوار على أساس “إعلان بعبدا” الصادر في العام 2012، الذي وافق عليه “حزب الله” وسائر الأحزاب السياسية الرئيسة في لبنان. ويدعو الإعلان اللبنانيين إلى “تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية”، إضافة إلى “تجنيبه الانعكاسات السلبية للتوترات والأزمات الإقليمية” واحترام القرار 1701. ومن شأن إقامة حوار جامع وشامل حول هذه القضايا أن يطمئن “حزب الله” والطائفة الشيعية الأوسع معه، ويمكن أن يخفف من أسوأ مخاوف الحزب بينما يتأقلم مع واقعه الجديد.
سيتعين على العالم الخارجي، أيضا، أن يسهم في تعزيز مثل هذه المحادثات، نظراً إلى أن نهاية الصراع في لبنان يغلب أن تندرج ضمن تسوية إقليمية أوسع تشمل فرنسا وإيران وإسرائيل والولايات المتحدة ودولا عربية مؤثرة، مثل قطر والمملكة العربية السعودية، وربما الإمارات العربية المتحدة. في الوقت الراهن، ستشمل مفاوضات وقف إطلاق النار نقاط خلاف كبيرة تتعلق بحماية السيادة اللبنانية مع ضمان عدم إعادة تسليح “حزب الله”. أما مشروع الاتفاق الإسرائيلي – اللبناني الذي وضعته الولايات المتحدة وجرى تسريبه إلى صحيفة “فاينانشيال تايمز”، فيبدو أقرب إلى مرسوم يملي على لبنان الاستسلام الكلي، من المنظور اللبناني. وتنص بنود مشروع القرار على أن يطبق لبنان وحده قرار الأمم المتحدة 1701، ويترك لإسرائيل حرية مواصلة طلعاتها الجوية وغاراتها ودخول البلاد ساعة تشاء. كما أضيف إلى الوثيقة ملحق من المفترض أنه يقدم ضمانات أميركية لإسرائيل بأنه يسمح لها بمواصلة قصف لبنان كلما شعرت بانتهاك للقرار 1701.
يجب أن ترفض أي جهة كانت هذا النوع من الاتفاق، بالنظر إلى ما يمثله من انتهاك للسيادة اللبنانية. فهو سيؤدي إلى السماح لـ”حزب الله” بإعادة التأكيد على سرديته وهويته باعتباره حزب مقاومة. وعوضاً عن ذلك، ينبغي أن تعمل واشنطن مع الدوحة وباريس والرياض وشركاء آخرين من أجل الارتقاء بمستوى الدعم المالي والعسكري والمؤسسي للجيش اللبناني بصورة تتيح له الانتقال إلى الجنوب والسيطرة على حدود لبنان. ويجب أن تدعم هذه الدول، كذلك، مبادرات إعادة الإعمار كجزء من صفقة متكاملة مع لبنان، تضمن أن يمر دعمها عبر قنوات المؤسسات الحكومية اللبنانية.
لكن المسألة الأكثر إلحاحاً هي ضرورة ممارسة العالم ضغوطاً على إسرائيل كي تنهي الصراع في لبنان. وإلا، فقد تسفر هذه الحرب عن انهيار لبنان وما يمثله من نموذج لتنوع اجتماعي يزداد ندرة -على الرغم من عيوبه- وتخلف ارتدادات إقليمية أعظم.
ما بعد الحرب في لبنان: هل ينجو البلد من حربه مع إسرائيل؟
6
المقالة السابقة