محمد محمود الحسن* – (ذا ديلي ستار) 2023/11/30
لفهم متى وكيف بدأت المشكلة الفلسطينية بشكل أعمق، لجأت إلى صفحات الأدب ووجدت أعمالاً من بينها مذكرات رولد دال “الترحال وحيداً” Going Solo، التي نُشرت أول مرة في العام 1986.
***
في يوم السبت، 15 شباط (فبراير) 2003، كنت جزءاً من قافلة مكونة من 15 عربة تتجه من بورتسموث إلى لندن، المملكة المتحدة. كنا نقوم برحلة، تحت قيادة الراحل جون مولينو(1)، للانضمام إلى نشاط مناهض للحرب يقام في حديقة “هايد بارك” في لندن، والتي حضرها مليون شخص وفقاً لهيئة الإذاعة البريطانية، ومليونا شخص وفقاً للمنظمين. وكطالب في الأدب الإنجليزي، كنت متحمساً بشكل خاص لسماع خطاب هارولد بنتر(2) في التجمع، وهو مؤلف مسرحية “حفلة عيد الميلاد” (1958) The Birthday Party، التي كنت قد قرأتها خلال أيام دراستي في جامعة دكا.
بعد بضع سنوات لاحقاً، في العام 2006، كان بنتر من بين مجموعة من الكتاب البارزين، بمن فيهم أرونداتي روي، نعوم تشومسكي، طارق علي، وتوني موريسون، الذين وقعوا خطاباً يكشف عن النفاق الإعلامي الواضح خلال تصاعد التوترات بين إسرائيل وفلسطين. وتضمن الخطاب البيان التالي:
“كل استفزاز وكل ردّ فعل عليه يُثار حوله الجدل وتُلقى بشأنه الخطب. لكن الجدالات اللاحقة، والاتهامات، والوعود، كلها تخدم كوسيلة إلهاء تهدف إلى تحويل انتباه العالم عن ممارسة طويلة الأمد، عسكرية واقتصادية وجغرافية، تسعى سياسياً إلى تحقيق هدف لا يقل عن تصفية الأمة الفلسطينية”.
في 24 حزيران (يونيو) 2006، اختطفت القوات الإسرائيلية اثنين من الفلسطينيين -طبيباً وأخاه- من منزلهما في غزة. وفي اليوم التالي، 25 حزيران (يونيو) 2006، اختطف الفلسطينيون الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في غارة عبر الحدود، وهو ما دفع إسرائيل إلى شن غارات جوية والتوغل في غزة. وأشار الموقعون على الرسالة إلى أن وسائل الإعلام الرئيسية اعتبرت اختطاف جلعاد شاليط “جريمة فظيعة”، بينما لم تقم بتغطية اختطاف الفلسطينيَّين الذي حدث قبل يوم بالكاد في أي مكان، باستثناء الصحافة التركية.
بدأت فورة المشاكل الحالية في إسرائيل وفلسطين مع الهجمات التي شنتها “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وفي رد غير متناسب، انتهكت القوات الجوية والبرية الإسرائيلية جميع المعايير الدولية وقتلت، حتى كتابة هذه السطور، أكثر من 14.000 (3) فلسطيني من الرجال والنساء والأطفال، ودمرت عدداً لا يحصى من البنى التحتية في غزة، بما في ذلك الأبنية السكنية والمستشفيات والمدارس. ونتيجة لذلك، أصبحت غزة مليئة بالجثث ومثقلة بالأيتام الذين فقدوا آباءهم وأقاربهم. وغني عن القول إن عنف المستوطنين الإسرائيليين وجرائم القتل في الضفة الغربية ما تزال مستمرة على قدم وساق.
فشلت الحكومة الإسرائيلية في حماية مواطنيها في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وربما لتشتيت الانتباه عن هذا الفشل، عمدت إلى إطلاق حملة طويلة من القصف والإبادة الجماعية في غزة. ويشير الفهم المشترك والشائع لمصطلح “الدفاع عن النفس” إلى حماية المرء نفسه والآخرين في منطقته. لكنّ الإجراءات العدائية الإسرائيلية طويلة الأمد خلطت بين الدفاع والهجوم -غالباً بعواقب إبادية في فلسطين، حيث تقتل إسرائيل الفلسطينيين وتهدم منازلهم والبنى التحتية الأخرى بلا تردد أو خوف من عقاب، في انتهاك واضح لجميع قواعد الاشتباك.
استمرت إسرائيل والعديد من مؤيديها في تكرار استنكار هجمات “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وهم يريدون من بقية العالم تجاهل الوفيات والدمار في غزة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية، والاعتقاد بأن المشكلة بدأت في هذا التاريخ. ولفهم متى وكيف بدأت هذه المشكلة، لجأت إلى صفحات الأدب، ووجدت أعمالاً، من بينها مذكرات رولد دال “الترحال وحيداً” Going Solo التي نُشرت لأول مرة في العام 1986.
وفي وقت سابق، في كانون الثاني (يناير) 1983، كان قد نُشر كتاب آخر بعنوان “الله بكى” God Cried، وهو من تأليف الصحفي الأسترالي توني كليفتون والمتخصصة في تصوير الحروب، الفرنسية -الراحلة الآن- كاثرين ليروي. وكانا كلاهما قد غطيا الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982 وسردا في الكتاب قصة حصار بيروت الغربية، وكيف ضحى الفلسطينيون وحلفاؤهم اللبنانيون بأرواحهم للدفاع عنها.
قرب نهاية ذلك الغزو، في أيلول (سبتمبر) 1982، حاصرت القوات الإسرائيلية مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين وحي صبرا الملاصق، ووفرت غطاءً لمجموعة ميليشيا “الكتائب اللبنانية” المارونية لتنفيذ مجازر، بشكل خاص ضد اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا قد فروا من الموت والتطهير العرقي في العام 1948 عندما تأسست إسرائيل على أرض فلسطين. ووفقاً لتقرير بثته قناة “الجزيرة” في 16 أيلول (سبتمبر) 2022، فإنه خلال “43 ساعة، من السادسة مساءً يوم الخميس 16 أيلول (سبتمبر)، وحتى الواحدة مساءً يوم السبت 18 أيلول (سبتمبر)”، قتلت الميليشيات المدعومة من إسرائيل ما بين 2.000 و3.500 لاجئ فلسطيني ومدني لبناني.
كتب أول سيناتور أميركي عربي، الراحل جيمس أبو رزق، مراجعة لكتاب “الله بكى” نُشرت في مجلة “تقرير واشنطن حول الشرق الأوسط” في 3 تشرين الأول (أكتوبر) 1983. وفي مراجعته، كتب أبو رزق:
“يقدم كليفتون نقطة مهمة، أوافق عليها شخصياً وكنتُ قد ذكرتها مرات عدة أثناء مناقشة الغزو الإسرائيلي. لقد صرفت المجازر في صبرا وشاتيلا الانتباه بعيداً عن الجريمة الأكبر التي ارتكبتها إسرائيل في مذابحها اللاإنسانية خلال الصيف (في العام 1982)”.
يعتبر أبو رزق كتاب “الله بكى” وثيقة ستعيد إشعال غضب أولئك الذين يقرأونها -غضب تجاه الآلة الحربية الإسرائيلية وكل من دعمها وقدم أعذاراً للمجزرة المروعة التي ارتكبتها بحق سكان بيروت الغربية. وسوف يجد الجميع صفحة أو قصة أو صورة في كتاب “الله بكى”، التي ستظل عالقة في أذهانهم للأبد، وليس هناك حدود عملياً للقصص التي يحتويها هذا الكتاب.
كان الغضب الذي أشار إليه أبو رزق قد وجد تعبيراً في مراجعة سابقة عن كتاب “الله بكى” كتبها رولد دال ونُشرت في عدد آب (أغسطس) 1983 في مجلة “لتراري ريفيو” Literary Review البريطانية. وافتتحت المقالة المعنونة “ليس قصة نبل” بهذه العبارات:
“في حزيران (يونيو) 1941، صادف أنني كنت، من بين جميع الأماكن، في فلسطين، أطير مع سلاح الجو الملكي ضد الفرنسيين الفيشويين والنازيين. وحدث أن هتلر كان في ألمانيا وكانت غرف الغاز قيد البناء، وبدأت الإبادة الجماعية لليهود. وقد انفطرت قلوبنا على الرجال والنساء والأطفال اليهود، وكرهنا الألمان. وبعد 41 عاماً، في حزيران (يونيو) 1982، كانت القوات الإسرائيلية تتقدم شمالاً من ما اعتادت أن تكون فلسطين في اتجاه لبنان، وبدأت حملة الإبادة الجماعية لسكانه. وقد انفطرت قلوبنا على الرجال والنساء والأطفال اللبنانيين والفلسطينيين، وشرعنا كلنا في كراهية الإسرائيليين. لم يحدث من قبل أبداً في تاريخ البشرية أن تحول جنس من الناس من ضحايا يحظون بالكثير من الشفقة والتعاطف إلى قتلة وحشيين بهذه السرعة. لم يحدث من قبل أن يكون جنس من الناس قد ولّد كل هذا التعاطف في كل أنحاء العالم ثم، في فترة حياة واحدة، نجح في تحويل هذا التعاطف إلى كراهية واشمئزاز”.
قبل أشهر من وفاته في تشرين الثاني (نوفمبر) 1990، صرّح دال في مقابلة مع صحيفة “الإندبندنت” البريطانية بأن غضبه تجاه إسرائيل “بدأ في العام 1982 عندما غزت إسرائيل لبنان. وقد قتل الإسرائيليون 22 ألف مدني عندما قصفوا بيروت. وتم التعتيم على ذلك كثيراً في الصحف، في ما يعود بشكل أساسي إلى أنها مملوكة في الأساس ليهود. أنا بالتأكيد معادٍ لإسرائيل، وقد أصبحت معادياً للسامية بقدر ما يمكنك أن ترى شخصاً يهودياً في بلد آخر مثل إنجلترا يدعم الصهيونية بقوة”.
صحيح أن بعض أجزاء تصريحات دال المذكورة أعلاه تحمل طابع معاداة السامية؛ وأنا على دراية بالجدل الذي أحاط بآرائه عن إسرائيل واليهود وبالاتهام الموجه إليه بمعاداة السامية. يمكن تفسير بعض تعليقاته على أنها معادية للسامية حقاً، وبذلك لا يمكن الدفاع عنها. ولكن يجب التمييز بوضوح بين معاداة السامية ومعارضة سياسات إسرائيل القائمة على التمييز والفصل العنصري. للأسف، ثمة الكثير من مؤيدي إسرائيل مذنبون بالخلط بين الآراء المناهضة لإسرائيل ومعاداة السامية، ويستخدمون (أو يسيئون استخدام) خطاب معاداة السامية لمنع انتقاد سجل إسرائيل القاتم في حقوق الإنسان.
أريد أن أوضح أنني لم أصادف أي تصريحات معادية للسامية في كتاب “الترحال وحيداً”. بل على العكس، في الكتاب يصف دال “اضطهاد اليهود في 1938 و1939” في ألمانيا النازية بأنه “أعظم جرائم القتل الجماعي في تاريخ العالم”. كان دال يعيش في شرق إفريقيا خلال تلك السنوات ويأسف لأن “الصحيفة المحلية، التي كانت كل ما لديّ لأقرأه، لم تذكر شيئاً عن” الهولوكوست. ويعزو دال ذلك النقص في المعلومات إلى الطبيعة “المنغلقة والمعزولة” للمستعمرات البريطانية.
في العام 1934، عندما كان عمره 18 عاماً، بدأ رولد دال العمل في شركة “شل” النفطية بلندن. وفي العام 1938، تم إرساله إلى “دار السلام” في ما تعرف الآن بتنزانيا. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية في العام 1939، انضم إلى “سلاح الجو الملكي البريطاني”، حيث قاتل في إفريقيا و”نجوت بأعجوبة فقط”، كما قال.
في وقت لاحق، قادته جهود الحرب إلى “حيفا (الآن في إسرائيل) في شمال فلسطين في الأسبوع الأخير من أيار (مايو) 1941”. وفي صباح أحد الأيام، طار ثلاثين ميلاً من حيفا إلى منطقة داخلية -“ملاذ صغير وسري” لسلاح الجو الملكي- خلف سلسلة جبال الكرمل. وفي هذا المكان النائي، وبما أثار دهشته الكبرى، قابل دال عشرات الأطفال “ورجلاً طويلاً ملتحياً يتجول بينهم ويأمرهم بالبقاء بعيداً عن الطائرة (طائرة دال)”. وبلكنة ألمانية، قال الرجل: “مرحباً بك في مستوطنتنا الصغيرة”. (لاحقاً في الكتاب، يخبر دال القراء: “اسم تلك المستوطنة الصغيرة… كان ’رمات دافيد‘” في ما أصبح لاحقاً إسرائيل).
عندما لاحظ الرجل دهشة دال من وجود بشر في مثل هذا الموقع النائي، قال: “نحن نحصد القمح بأنفسنا وساعدنا في تمهيد المدرج. هذا حقل قمحنا”.
سأل دال: “ولكن، من أنتم ومن هؤلاء الأطفال؟”.
أجاب الرجل: “نحن لاجئون يهود. والأطفال جميعهم أيتام. هذا وطننا… نحن في كل مكان. نحن في كل أنحاء البلد”.
وأضاف الرجل: “الأرض في الوقت الحالي ملك لفلاح فلسطيني، لكنه سمح لنا بالعيش هنا. كما سمح لنا أيضاً باستخدام بعض الحقول لنزرع طعامنا”.
وعند نقطة ما، قال دال للرجل: “إذن، سوف تصبحون جميعاً فلسطينيين. أو ربما أنتم كذلك بالفعل”.
أجاب الرجل: “لا أعتقد أننا سنصبح فلسطينيين… نحن في حاجة إلى أن يكون لنا بلدنا الخاص”.
تشمل التواريخ والأحداث المحورية في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: النكبة في العام 1948 عندما تم تهجير الفلسطينيين من أراضيهم وإقامة إسرائيل؛ وحرب 1967 التي أدت إلى استيلاء إسرائيل على “شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة من مصر، وهضبة الجولان من سورية، والضفة الغربية والقدس الشرقية من الأردن، وبالتالي استيلاؤها على جميع الأراضي المتبقية التي كانت قد خُصصت لدولة فلسطينية في خطة التقسيم التي وضعتها الأمم المتحدة في العام 1947″؛ وغزو إسرائيل للبنان في العام 1982. وتوضح القصة التي يرويها رولد دال في “الترحال وحيداً” أن احتلال الأرض الفلسطينية كان قد بدأ قبل العام 1948 بوقت طويل.
في الآونة الأخيرة، قرأت مقالاً في مجلة بعنوان “الكفاح ضد الهجرة اليهودية إلى فلسطين” The Struggle against Jewish Immigration to Palestine (1988) كتبه أرييه كوتشافي Arieh J. Kochavi، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة حيفا. وجاء في المقال: “من العام 1933 وحتى العام 1936، وصل أكثر من 130.000 يهودي إلى فلسطين. وخلال هذه الفترة، نما مجتمع اليشوف، أو المجتمع اليهودي، في فلسطين بنسبة اقتربتت من 80 في المائة، وبلغت الهجرة ذروة في العام 1935، عندما دخل 62.000 شخص إلى فلسطين”.
وتشير دراسات أخرى إلى أن وصول اليهود إلى فلسطين وتهجير الفلسطينيين منها بدأ قبل ثلاثينيات القرن العشرين بكثير. وبذلك، فإن هجمات “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 لم تكن بداية المشكلة. إن جذور المشكلة تعود إلى زمن أبعد وراءً بكثير من هذا.
في هذا النقاش، ذكرتُ كُتاباً سعوا إلى تحقيق العدالة للفلسطينيين. معظم هؤلاء الكتاب ليسوا مسلمين. واثنان منهم -تشومسكي وبينتر- من أصول يهودية. وهذا يبين أن قضية العدالة للفلسطينيين هي قضية إنسانية وليست دينية. وهناك أيضاً كُتاب يرفعون أصواتهم بالنقد والاحتجاج عندما يتم تحديد مرتكبي الجرائم على أنهم مسلمون، لكنهم يلتزمون الصمت عندما يتعلق الأمر بانتهاكات إسرائيل الفظيعة لحقوق الإنسان. ربما يتحدث صمتهم بصوت عالٍ عن التحيز والتحامل المتأصلين في رؤاهم الفكرية.
د. محمد محمود الحسن: أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب ما بعد الكولونيالي في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، ويشغل منصب رئيس تحرير مجلة “آسياتيك” Asiatic المفهرسة في (سكوبس).
*نشر هذا المقال تحت عنوان: On the Palestine Question: Roald Dahl, Harold Pinter, and others
هوامش المترجم:
(1) جون مولينو John Molyneux: كاتب ومفكر ماركسي بريطاني بارز. اشتهر بتحليلاته السياسية والاجتماعية المرتبطة بالنظرية الماركسية، ومواقفه الداعمة للقضايا التحررية مثل القضية الفلسطينية. وُلد في العام 1948 وتوفي في كانون الأول (ديسمبر) 2022، وكرّس حياته للعمل السياسي والأكاديمي من منظور اشتراكي ثوري.
(2) هارولد بنتر Harold Pinter: كان كاتباً مسرحياً، شاعراً، ومخرجاً بريطانياً، يعد من أبرز الشخصيات في الأدب المسرحي في القرن العشرين. ولد في العام 1930 وتوفي في العام 2008. حصل على جائزة نوبل للآداب في العام 2005 تقديراً لإبداعه الذي مزج بين الفن المسرحي والتعليق السياسي والإنساني.
(3) كان هذا عدد الضحايا الفلسطينيين في غزة بعد أقل من شهرين من بدء الحرب في العام الماضي. وقد بلغ عدد الشهداء المسجلين في غزة، وفق آخر الإحصائيات، 44.249 شخصاً.