بحمد الله ونعمه وبركاته، خبَزنا، أكَلنا وشبِعنا أمس الأول الأحد، في واشنطن بمعية الأحبة، في اليوم الأمريكي للاحتفال سنويا بالخبز، كامل الخميرة، المخبوز منزليا.
تحتفل الأمة الأمريكية بهذا اليوم المبارك منذ ثمانينيات القرن الماضي. المبادرة كانت من ولاية ميشغان التي كانت متأرجحة وصارت حمراء، بعد حسمها وسائر الولايات الست الأخرى لصالح الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة دونالد جيه ترامب.
ما زالت نسبة لا يستهان بها أمريكيا وشرق أوسطيا وعالميا في حالة تتراوح بين الدهشة والصدمة، التوجس والترقّب لما تعنيه عودة ترامب إلى البيت الأبيض، في ولاية ثانية وأخيرة ضمِنَ فيها على الأقل لعامين -موعد التجديد النصفي للكونغرس- رئاستي السلطات كافة، مجلسي الكونغرس الشيوخ والنواب، والسلطة القضائية ممثلة بالمحكمة العليا ذات الغالبية الجمهورية القوية.
على سبيل الاستراحة قليلا من أخبار ترامب وأمريكا والسياسة عموما، هذه دعوة للعودة إلى خُبز الدار. ففي هذا اليوم يحث الإعلام الهادف -بما فيه العمومي والخاص في أمريكا- يحث الأمريكيين على العودة إلى الجذور، إلى الأصالة، إلى البساطة في كل شيء، بدءاً من المطبخ لا من غرفة المعيشة، ولا الصالون ولا «غرفة الضيوف» وتعرف لدى إخوتنا المصريين مثلا «غرفة المسافرين» في إشارة إلى أن للاستضافة أوقات وإن كانت غير محددة من غير الطبيعي أن تطول!
البداية لا تحلو إلا مع الخبز تحديدا، أهم وأقدم ما أكلت البشرية والحضارات كافة. ثمة إجماع روحي وطني على رمزية الخبز وقداسته. هي محبة وخدمة وفداء كما لدى إخوتنا المسيحيين. وهي «العيش والملح» في الديانات التوحيدية التي ما زال يقسم بها أحفاد سيدنا إبراهيم حتى يومنا هذا على اختلاف أديانهم ولغاتهم.
تحوي متاجر المواد الغذائية في بلاد العم سام أقساما خاصة لعشرات الأصناف من الخبز والمخبوزات. كنت أراها ضربا من البذخ وحتى البطر، لكني أراها اليوم توكيدا لحق الناس في الاختيار على أن يكون القرار مستندا إلى حقائق علمية لا أوهام دعائية وراءها لوبيهات «جماعات ضغط».
ولدى الأجنحة المبردة في تلك الأسواق ثمة أرفف تعرض معجنات جاهزة للنفخ والطبخ تقليديا داخل فرن، أو حداثيا بثوان معدودات، في المايكرويف الذي تخلصت منه غير مأسوف عليه منذ سنوات!
لكن المؤمنين بالمحلية المتحمسين للمنزلية الداعين إلى الاعتماد على الذات أقله فيما نأكل ونشرب، دعوا إلى أن يكون خبز السابع عشر من نوفمبر سنويا، من ألفه إلى يائه، تحضيرا منزليا أسريّا، ولا بأس من دعوة خاصة كل عام، لنخبة مختارة من الجيران أو الأصدقاء أو الزملاء حتى تتحقق متعة إعداد الطعام معا، لا مجرد استهلاكه والتهامه. للأسف الاستهلاكية التي انحدرت إلى مستوى «قلة الهيبة» للمستَهلَك عبر آليات التسويق غير البريئة كتلك التي روجت للتواصي والتوصيل إلى باب العمارة أو الشقة.
هذه أرزاق تحمل معها حكمة الخالق سبحانه، لكن من الحكمة والمحبة أن نخدم بعضنا بعضا، وهي ثقافة تبدأ بالبيت حيث يعمل الأب نموذجا لأبنائه قبل بناته على الخبز مع حبيبة القلب وشريكة العمر سيدة الدار «العيش والملح» الذي يبقى حتى بعد الرحيل عن هذه الدنيا التي لطالما نقول في مجالسنا إنها فانية، وإن دارنا هذه، دار هذه الدنيا، دار ممر لا مقر.
الشهر الماضي قام «مقلدون» مولعون في حب كل ما هو «برنجي» بالاحتفال في «الهالوين»! الناس أحرار، لا ريب أن في ذلك حكمة على الأقل تجارية، «لولا اختلاف الأذواق لفسدت الأسواق»، لكني أدعو من هذا المنبر الكريم -الدستور الغراء- أحبتنا في الأردن المفدى، مهد أقدم خبز عرفته البشرية، قبل أربعة عشر ألف سنة، إلى تخصيص يوم واحد لا أقول سنويا بل أطمع بالإجاويد وأقول أسبوعيا، يكون فيه خبيزنا خبيز الدار من ألفه إلى يائه، حيث زيت الزيتون الأصلي البلدي لا الزيوت النباتية المهدرجة، والقمح البلدي الأصلي، التي لم ترفع فيه -عبر العبث بالجينات الوراثية- نسبة الجلوتين أربعين ضعفا، وقليل من العسل أو التمر بدلا من السكر الأبيض أو الأسمر، لا فرق فكلاهما ضار -إلى حد السميّة- بحسب المختصين.
بيوتنا لا ريب بيوت عز، ولا ننسى أن المعزب كان رئيس الطهاة وكبير الحماة وأول البناة. هكذا بنيت بيوت الشعر في مضارب أجدادنا -الشيوخ- قبل الطين والحجر. كانت اللقمة ما تكون «هنيّة» إلا مع الضيف، والجار والقريب، الأقرب فالأقرب.
دامت ديارنا عامرة زاهرة ما دام «زيتنا في دقيقنا». لا فرق أن كان الخبز طابونا أم كماجا، شراكا أم مشروحا. صحتين وهَنا..