ألقى جلالة الملك يوم أمس خطبة العرش في مجلسي الأعيان والنواب معلنا افتتاح الدورة العادية الأولى لمجلس الأمة. فعلى الرغم من أن المشرع الدستوري قد أجاز للملك أن ينيب رئيس الوزراء أو أحد الوزراء ليقوم بمراسم الافتتاح وإلقاء هذه الخطبة، إلا أن جلالته دائما ما يحرص على حضور هذه الفعالية بنفسه وألا يمارس حقه الدستوري في الإنابة. وهو الأمر الذي يعكس أهمية هذا الخطاب الملكي الذي يتصادف ذكراه سنويا مع بداية الدورات العادية لمجلس الأمة.
فأولى الدلالات الدستورية لقيام جلالة الملك بإلقاء خطبة العرش بنفسه أنها قد تكون هي المناسبة الوحيدة سنويا التي يدخل فيها الملك مجلس الأمة. فهو بالعادة يدعو رؤساء مجالس الأعيان والنواب واللجان النيابية للاجتماع معهم خارج أروقة المجلس، وذلك احتراما منه لدور السلطة التشريعية واستقلاليتها عن السلطة التنفيذية ضمن مبدأ الفصل بين السلطات الذي يتبناه الدستور الأردني.
فحرص جلالة الملك على عدم التواجد داخل مجلس الأمة يعزز من فكرة أن مجلس الأعيان الذي يقوم بتعيين رئيسه وأعضائه بنفسه مستقل تماماً عن السلطة التنفيذية، كما أن عدم حضور جلالة الملك إلى مجلس الأمة يعكس احترامه لمجلس النواب الذي يجري انتخابه من قبل الشعب ويعبر عن إرادته من خلال صناديق الاقتراع. فتواجد السلطة التنفيذية في مجلس الأمة يقتصر فقط على رئيس الوزراء والوزراء الذين يحرصون على حضور جلسات مجلسي الأعيان والنواب، والمشاركة في النقاش والحوار معهم حول القضايا المحلية والدولية.
إن النصوص الدستورية الناظمة لتشكيل السلطة التنفيذية تنص صراحة على أنها تناط بالملك ويتولاها بواسطة وزرائه وفق أحكام الدستور، وبأن الملك مصون من كل تبعة ومسؤولية ومن يتحمل المسؤولية الوزارية عنه هم رئيس الوزراء والوزراء أمام مجلس النواب.
بالتالي، يكون السلوك الملكي بعدم الحضور إلى مجلس الأمة إلا من أجل إلقاء خطبة العرش متوافقا تماما مع نظام الحكم النيابي الذي قررته المادة الأولى من الدستور.
كما تتمثل الدلالات الدستورية الأخرى لخطبة العرش في حضور ممثلين عن السلطات الثلاث في الدولة وكبار المسؤولين فيها والقائمين على إدارة المؤسسات والإدارات الحكومية الكبرى، بالإضافة إلى قادة الأجهزة العسكرية والأمنية. فهذا التجمع الوطني لكافة أركان الدولة يعزز من المعاني الدستورية لخطبة العرش بأنها الوسيلة التي يرسم من خلالها جلالة الملك ملامح المرحلة القادمة على المستويين المحلي والدولي، ويقدم من خلالها تصوراته وأفكاره التي يجب أن يكون لها الأولوية في التنفيذ. فجلالته قد أكد أهمية العمل على توفير الحياة الكريم? وتمكين الشباب وإعدادهم لوظائف المستقبل، ومواصلة تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي ورفع معدلات النمو، بالإضافة إلى ضرورة الإسراع في تحديث القطاع العام وصولا إلى إدارة عامة كفؤة وقادرة على تقديم الخدمات النوعية للمواطنين بعدالة ونزاهة.
وعليه، تبرز أهمية تواجد ممثلين عن كافة السلطات الدستورية في الدولة وأجهزتها المدنية والعسكرية المختلفة لكي يستمعوا إلى هذه التوجيهات الملكية ويباشروا العمل على تنفيذها وإخراجها إلى حيز الوجود. فترجمة الرؤى الملكية التي يُعبر عنها جلالة الملك في خطابات العرش تتمحور بالدرجة الأساسية في مجلسي الأعيان والنواب؛ فهم المسؤولون دستوريا عن إقرار مشاريع القوانين التي هي الأساس في تنظيم العلاقة بين الفرد والدولة، بالإضافة إلى دورهم في الرقابة على الحكومة وقياس قدرتها في إدارة شؤون الدولة وتنفيذ التطلعات الملكية السام?ة.
من هنا جاءت الفلسفة الدستورية من اشتراط أن يقدم كل من مجلسي الأعيان والنواب عريضتين تتضمنان ردهما على خطبة العرش. فالنظامان الداخليان لكلا المجلسين ينصان على ضرورة تشكيل لجنة في كل مجلس للرد على خطبة العرش وذلك خلال أربعة عشر يوما من إلقاء خطبة العرش.
إن هذا الرد البرلماني من مجلسي الأعيان والنواب على خطبة العرش والذي جرى تقييده بفترة زمنية محددة لا يجوز تجاوزها يعكس حرص المشرع الدستوري على إلزام أعضاء مجلس الأمة بتنفيذ توجيهات جلالة الملك التي عبّر عنها في خطبة العرش. فيأتي الجواب النيابي بمثابة تعهد من قبل مجلسي الأعيان والنواب بالسير على هدي الأفكار الملكية، والعمل على إخراج ما يدور في ذهن الملك من أفكار وطموحات إلى حيز الوجود.
أستاذ القانون الدستوري – عميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة
laith@lawyer.com