ترى صورة تخطف ناظريك. بعدها تسمع صوتا مرافقا، كأن يكون اقتباسا من خطاب أو تصريحا أو رد فعل «واحد من الناس» حول قضية وطنية أو شأن عام. يأخذك الحنين قبل أن يرتد طرف عينك. يأخذك نحو سبعة آلاف ميل بحري من ضفاف بوتاميك -النهر الذي بنيت عليها العاصمة واشنطن- إلى النهر المقدس المبارك نهر الأردن العظيم- وما تكاد تنتهي من قراءتك للمنشور على «الفيس» وتهمّ بزرع قلب أو «لايك» ذهبي أو كتابة تعليق يحمل بعضا من مشاعرك في ديار الغربة أو المهجر، حتى تطفو ضحكة صفراء بلهاء لا تسر الناظرين، أيقونة الضحك كأحد خيارات ردود الأفعال الفيسبوكية، ضحكة فيها صفرة باهتة لا تمثل إلا بهتان خبثاء أشقياء سفهاء علت وجوههم قَتَرَة..
ألا بئس ما يقترفون بحق الذوق العام. ألا بئس الذباب الإلكتروني الذي كلما خرج على «التايم لاين» الأردني ذبابة منهم، من المأجورين المُسيّرين عن بعد، تذكرت ذلك «الرّيل» أو «الميم» الذي راج قبل بضع سنين في مصر الحبيبة، عندما ارتجل وغنى خمسينيّ نحيل أسمر من رواد مقهى، دَنْدَنَ شاديا «طقطوقة» هذا مطلعها: «الذباابة، هَشَشْتُها فطارت! الذبااابة..».
قميء مبتذل هذا التندر القائم على التذمر والمفضي إلى التنمر. تلك الذبابة أو «الهسهسة» لها قطيع من «المهسهسين» باللهجة العامية كناية عن خفتهم لا خفة ظلهم لكن «نجمهم الخفيف»! مناعتنا قوية ولله الحمد والمِنّة، لكن لا بد من قولها كمعاتب محبّ. العتاب للإنصاف وبالعشم، ثلاثي الأبعاد. أبدأ بالغريب ومن ثم القريب وأختم بالنفس، فكثير من العتب علينا نحن.
عتبي على الأخ مارك آل زوكيربيرغ الكرام، ونحن إخوة في الإنسانية والمواطنة الأمريكية، عتبي عليه كبير -على قدر المحبة- كيف تعجز لوغرتماته وبرمجياته عن كبح خطاب التنمّر والكراهية والتصدي له ولابنه «الشرعي أو غير الشرعي» التحريض -عبر الدجل والتدليس- على البلبلة والعنف والإرهاب. ألا يعلم من أوكلت إليهم مهام الحفاظ «على السلامة العامة للمجتمع» على منصات التواصل -لا التناحر- الاجتماعي، أن الكوميديا السوداء وبرامج الهجاء السياسي سيوف موسمية تارة ومأجورة تارة أخرى، وخناجر غدّارة بأيدي متعددي الوجوه والأقنعة، من ممارسي التقية ومدمني الكَمون، ذلك الصنف الذي «يِتْمَسْكَنْ حتى يتحكّم».
أما عتبي على القريب، فما يضير مواقعنا ومنابرنا في عالم طفا فيه على السطح «كل إناء بما فيه ينضح» من أولئك الخبثاء الذين عند مراجعتهم ومواجهتهم يقولون ما هي إلا غلطة غير مقصودة، ليس أكثر من سهوة، فعوضا عن كبس لايك أو زرع قلب ضغطنا زرّ الضحك! ضحكة بلهاء وراءها ابتسامة صفراء يعرفها الجمهور جيدا. قادني الفضول إلى كشف نمط موحد وكأنهم من خريجي «مدرسة واحدة قاريين على شيخ واحد» تقتصر ردود أفعالهم على الضحكات رغم جدية وأحيانا مأساوية الخبر أو التصريح أو البيان. قد يكون الحل في إغلاق خانتي التعليق وكتم أزرار تفاعلية إبداء المشاعر، أقله على المنشورات الهامة الحساسة، أو حظر من تكررت إساءتهم على نحو من اليسير رصده ودحضه وفضحه.
أما العتب الأخير فعلينا أنفسنا. بروحية الفريق الوطني الواحد، في الوطن والمهجر، لا بد من التذكر دائما أن الحضور الرقمي الفعال والمستدام، يتطلب قبل كل شيء ضخ أكبر حجم «نوعي» من المحتوى. الفضاء الالكتروني لا يحب الفراغ الذي يتم تعريضه إلى فوضى الطنين ذبابا ودبابير إلكترونية. بعضهم يتذمر والآخر يتندر وما بينهما يتنمر، ولؤلئك جوقة من الشتامين لا تطرب إلا ممولها الذي يطيش على شبر ماء! يسمونه قصف جبهات! ويوحدون بالبذاءة والفجاجة ساحاتهم التي لا تخفى على أحد.
بعد ذلك -بعد ملأ الفراغ وسد الثغرات- يكون الاشتباك الإيجابي الذي قطعا يختلف كليا عن الاستدراج إلى ساحات الذباب والهسهس الخلفية، وكلها خارج ربوع الأردن المفدى. معضلتنا أننا نقول -سمعا وطاعة- بألا تمس علاقاتنا مع أي من الأشقاء بأي سوء، حتى وإن مولوا وشغّلوا بشكل مباشر أو غير مباشر، ذلك القطيع الدنيء البذيء، من ذوي الوجوه التي فيها صُفرة تعلوها قَتَرَة..
ربنا يسامحهم ويهديهم. وأزيد فأقول، نسأل الله أن يردعهم ويشغلهم بأنفسهم، فزارع الشر لا شك حاصده أضعافا، والله يضاعف لمن يشاء. اللهم عليك بمن يرمينا ولو بوردة فيها شوكة. سوستنا سوداء، لا شوك فيها، فاحذروها..