في ظل تصاعد الاشتباكات العسكرية بين حزب الله والعدو الاسرائيلي وارتفاع وتيرة النزوح، تواجه الصحة النفسية في لبنان أزمة متزايدة، حيث انحدرت الأوضاع النفسية والمعيشية بشكل ملحوظ.
وفي هذا السياق، أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في لبنان، أن أكثر من 830 ألف شخص غادروا منازلهم في لبنان، بسبب العمليات القتالية وتدهور الأوضاع في الشرق الأوسط. وجاء في تقرير المكتب الأممي: “منذ 8 تشرين الأول 2023، تم تسجيل 834,746 نازحا داخليا، 52% منهم من النساء. ويقيم 189,298 شخصا من هؤلاء النازحين في 1100 مركز إيواء، وقد وصل 935 منها (84%) إلى الحد الأقصى للإشغال”، مشيرا الى “ان أكثر من مليون ومئتي ألف نازح وضعهم مزرٍ والعدد مرجح للارتفاع”.
في المقابل، لجأ البعض الى العيش في شقق سكنية، بينما توجه آخرون للإقامة في فنادق وفقاً لقدراتهم المادية.
دموع كبار السن وألم الأمهات
من المؤكد انه صعب رؤية الدموع تتراقص في عيون كبار السن، وتحمل معها أعباء السنوات التي شهدت مآسي لا تُنسى. كيف يمكن للمسؤولين أن يظلوا غير مبالين تجاه هؤلاء الذين عاشوا التجارب الأليمة ومروا بتقلبات الزمن، في حين أن قلوبهم تخفق بالألم والحنين إلى أيام كانت فيها الحياة أكثر هدوءا وسكينة؟ إن صحتهم النفسية، التي تدهورت بسبب الحروب المتتالية والنزوح، تثير فيهم شعوراً باليأس، وكأنها تمنعهم من إيجاد بارقة أمل في مستقبل غامض.
أيضا، تتجلى معاناة الأمهات الثكالى اللاتي فقدن أبنائهن في رحى هذه الحرب البشعة، ودموعهن ليست فقط رمزا للحزن، بل صرخات تعبر عن وجع لا يوصف. كيف يمكن لقلب أن يتحمل فقدان فلذة كبده، بينما تتزايد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية المحيطة به؟ إن صرخات هؤلاء الأمهات تخترق جدران الصمت، لكن صداها قد لا يصل إلى آذان المسؤولين، الذين من المفترض أن يستمعوا ويستجيبوا.
لذلك، لم يكن بوسع جريدة “الديار” إلا أن تكون صوت الحق لهؤلاء، تُعبر عن مأساتهم وتنقل صرخاتهم ووجعهم إلى العالم. فالتواصل مع الجهات المعنية، سواء كانت حكومة تصريف الأعمال أو الوزارات الرسمية، أصبح ضرورة ملحة. نحن كوسيلة إعلامية لدينا مسؤولية كبيرة في اظهار شقائهم، لتسليط الضوء على ما يعيشونه من آلام وصعوبات.
إن هذا النداء ليس مجرد كلمات، بل هو صرخة تُطالب بتحرك سريع وفعال، عسى أن تُحدث تغييرا حقيقيا، يُعيد الأمل إلى قلوب تجرعت الألم.
ارتفاع كلفة المعيشة وتأثيرها في الصحة
مع تعاظم المصاريف الحياتية بشكل غير مسبوق، لم تقتصر الضغوط النفسية على المهجرين من مساحات النزاع فحسب، بل شملت أيضاً المواطنين في المناطق الأخرى غير المتأثرة مباشرة بالاشتباكات المسلحة.
فارتفاع أسعار الإيجارات والغلاء المعيشي قد أثقل كاهل الأسر، مما أدى إلى ضغوط نفسية كبيرة، تهدد استقرارها وتضعف صحتها النفسية. لذا، تجاهد العائلات اليوم لتغطية احتياجاتها الأساسية، سواء في الاقضية المتضررة أو المحافظات الآمنة نسبياً، حيث باتت الحاجة لتلبية متطلبات الحياة تشكل عبئاً نفسياً إضافياً.
وتنعكس هذه الأزمات الاقتصادية على الجميع، مما يزيد من التوترات العائلية، ويفاقم من مشاعر القلق والخوف من المستقبل، ليصبح الضغط النفسي جزءاً لا يتجزأ من حياة اللبنانيين.
التحديات والضغوط
في ظل ارتفاع نفقات المعيشة، يعاني المهجرون من ضغوط نفسية هائلة، نتيجة العبء المالي الذي يثقل كاهلهم. فقد ارتفع إيجار الشقق إلى مستويات غير متوقعة، إذ بلغ ما يزيد على 1500 دولار شهرياً للشقة الواحدة، بينما تحتاج الأسرة النازحة الى ما لا يقل عن 2500 دولار لتغطية نفقاتها الشهرية. مع تصاعد أسعار السلع الأساسية وتكاليف الحياة اليومية، يتزايد العبء النفسي على أفراد هذه العائلات، حيث يشعرون بالعجز عن تلبية اغراضهم الأساسية وتوفير حياة كريمة لأبنائهم.
لذلك، انعكست هذه الأوضاع سلباً على الصحة النفسية للعائلات، وخاصةً الأطفال، الذين تأثروا بأجواء التوتر والقلق التي يعيشها الأهل. ترافق هذه الضغوط مشاعر الاكتئاب والخوف من المستقبل، مما يخلق بيئة مشحونة قد تؤدي إلى مشكلات عائلية كبيرة مثل زيادة التوترات بين الزوجين، وقد تنتهي أحياناً بالطلاق.
كما أن استمرارية هذه الضغوط ترفع من احتمالية الإصابة بأمراض نفسية مزمنة، مثل القلق والاكتئاب، فضلاً عن احتمال لجوء البعض إلى سلوكيات سلبية كالتدخين أو إدمان المواد المنشطة بحثاً عن وسيلة للهروب من واقعهم.
شهادات النازحين… قصص من واقع مرير
تروي السيدة ريما، التي نزحت من بلدة الضهيرة الحدودية مع أطفالها، تجربتها المؤلمة قائلةً: “أشعر بالعجز كل يوم، ما بين تأمين لقمة العيش ودفع إيجار شقة صغيرة قد استنزفت مدخراتي. الخوف على أولادي من أثر هذه الظروف النفسية يرافقني طوال الوقت”.
كما تُشير عائلة أخرى من النازحين إلى أن “الوضع النفسي يتفاقم سوءاً، اذ يتأثر الأطفال بشكل كبير، فلا يجدون الاستقرار الذي يحتاجون اليه، وأصبحت الحياة ملأى بالتوتر والعصبية”.
الصحة النفسية أولوية ملحة
وفي هذا المجال، يقول خبراء في مجال الصحة النفسية لـ “الديار” إن “التحديات المعيشية المتراكمة تؤثر بشكل مباشر في العلاقات الأسرية، حيث تضعف الروابط بين أفراد العائلة وتجعل التواصل بينهم متوتراً. هذا الانهيار النفسي والاجتماعي، إذا لم يتم التعامل معه بطرق علاجية مناسبة، قد ينعكس سلباً على الأجيال القادمة، ويخلق مجتمعاً مليئاً بالاضطرابات النفسية والعنف الأسري، ويضع ضغوطاً إضافية على النظام الصحي والاجتماعي في البلاد”.
الصحة النفسية كأولوية وليست رفاهية
بدورها، توضح الاختصاصية النفسانية والاجتماعية غنوة يونس لـ “الديار” أن “الاهتمام بالصحة النفسية أصبح أمراً ضرورياً، وليس ترفاً. فالضغط النفسي الذي يعيشه المهجرون من بيوتهم وقراهم، والظروف الاقتصادية الصعبة يُضعف قدرتهم على التكيف والاستمرار. وتعتبر العافية أحد العناصر الأساسية لتحقيق التوازن الاجتماعي، والقدرة على التأقلم مع الأزمات، لكن يؤدي إهمالها إلى عواقب وخيمة، منها ارتفاع معدلات العنف الأسري، وزيادة حالات الاكتئاب، بل وحتى الإدمان، حيث يبحث البعض عن مهرب مؤقت من واقعهم المرير”.
دور الخطة الوطنية
وتتابع “يتطلب الوضع الحالي اعداد خطة وطنية شاملة للاستجابة لحالات الطوارئ المتعلقة بالصحة النفسية. ينبغي أن تتضمن الاستراتيجية فرقاً طبية متخصصة وأخصائيين نفسانيين قادرين على التحرك الفوري إلى المناطق المتضررة. تعد العيادات المتنقلة جزءاً أساسياً من هذه التدابير، حيث تمكن الفرق من تقديم الاستشارات والدعم النفسي اللازم مباشرة للأسر التي تحتاج إلى ذلك”.
تكامل الجهود!
من جانبها، تشدد مصادر سياسية مطلعة على “ضرورة أن تتضافر الجهود بين وزارة الصحة وغيرها من الجهات المعنية بالصحة النفسية، مثل منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدولية، لتفعيل مشروع وطني شامل يدعم الصحة النفسية بشكل فعّال”.
وتؤكد المصادر لـ “الديار” أن “هذه البرامج تستوجب وضع آلية دائمة للاستجابة السريعة، وتأمين فرق طبية جاهزة للتحرك الفوري عند الحاجة، بالإضافة إلى تكثيف التوعية بأهمية الراحة لضمان أن يصبح الدعم النفسي متاحاً للجميع، بخاصةٍ في مناطق النزاع والمناطق ذات الكثافة السكانية المرتفعة للنازحين”.
مجتمع أكثر تماسكاً واستقراراً
في الخلاصة، لا شك ان الظروف الاستثنائية التي يمر بها لبنان، جعلت الاستثمار في العافية ضرورة لا يمكن التغاضي عنها. اذ لا يساهم توفير الدعم النفسي للمهجرين والمحتاجين فقط في تخفيف الأعباء النفسية، بل يساعد ايضا في بناء مجتمع أقوى وأكثر تماسكاً. الخطوات الوطنية الشاملة والدعم المستمر لبرامج الصحة النفسية، هما السبيل لتقليل آثار الأزمات وتجاوزها، وتحقيق استقرار نفسي واجتماعي يدعم كل مواطن من اجل تأسيس مستقبل أكثر إشراقاً.