عروبة الإخباري –
العرب –
في مقال سابق عنونته بـ”الذوق العام التونسي بين التشدد والتفاهة”، تطرقت إلى مفهوم الذوق العام وكيف يمكن تعريفه في مجتمع يختلف أفراده ويتراوح أغلبهم بين التشدد الفكري بكل أشكاله وبين الاندفاع المطلق نحو التفاهة.
استعدت تلك الثنائية المتضادة وأنا أقرأ بلاغا لوزارة العدل التونسية تعلن فيه عن تنقيح للمجلة الجزائية يتعلق بزجر الاعتداء على الأخلاق الحميدة وزجر التحرش الجنسي، على إثر “انتشار ظاهرة تعمد بعض الأفراد استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، وخاصة تيك توك وإنستغرام، لعرض محتويات معلوماتية تتعارض مع الآداب العامة أو استعمال عبارات أو الظهور بوضعيات مخلة بالأخلاق الحميدة أو منافية للقيم المجتمعية من شأنها التأثير سلبا على سلوكيات الشباب الذين يتفاعلون مع المنصات الإلكترونية المذكورة”.
هي خطوة جيدة، هكذا رآها جزء كبير من التونسيين الذين استبشروا بأن تكون حركة جدية نحو إعادة تنظيم المجتمع و”تنظيفه” وفرض ضوابط قانونية تؤطر استخدام السوشيال ميديا، وفق مفاهيمهم الخاصة عن الأخلاق والذوق العام، لكنها خطوة رآها آخرون سلاحا جديدا بيد السلطة بإمكانها توظيفه خارج السياق الذي سن من أجله، وهم أيضا يبررون آراءهم وفق مفاهيمهم الخاصة عن الحرية والأخلاق والذوق.
وفي حين تحارب تونس الابتذال والتفاهة على السوشيال ميديا، يرتمي العالم بأقصى سرعة في أحضان الذكاء الاصطناعي، ولسوء الحظ أننا في منطقة عربية منذ أن لمح أفرادها أول تطبيقات ذكية حتى وظفوها في ترويج فيديوهات كاذبة واستغلوها في الغش والخداع والتشويه، فأي قوانين يمكن وضعها من شأنها أن تواجه كل هذا؟
وكيف ستتمكن الدولة من مراقبة آلاف الصفحات على تيك توك وإنستغرام، أم أن كل مواطن سيشتغل مخبرا مجانيا، كلما رأى حديثا لا يعجبه أو سلوكا لا يروقه استنجد بالشرطة؟
في الماضي، وليس الماضي البعيد جدا، وإنما في مطلع الألفينيات مثلا، حين لم يكن هناك سوشيال ميديا وكل هذا التكالب على الشهرة السريعة والمجانية بنشر الفضائح وافتعال المشكلات، كان من السهل على الدول أن تقود الشعوب، توجهها نحو “الذوق العام” الذي تريده، وهكذا تغير السلطات ذوق الشعوب كما تتغير بدورها، فأحيانا تجد الشعب قد تدين ثم بعد عشرين عاما يمنح حرية مفاجأة. يكفي أن نقيس ذلك على اللباس وضوابطه مثلا. ورغم كل ذلك كانت الدولة عاجزة عن السيطرة وأحيانا عن الردع، وحتى القوانين تنفذ على هذا وتنسى ذاك. وبعض البشر يرفع شعار “وضعت القوانين لتخترق”.
بعد ثورة يناير 2011، انتشرت برامج تلفزيونية تونسية شهدت الكثير من الخرق للقوانين وضوابط الأخلاق العامة، منها برامج اجتماعية وبرامج تلفزيون الواقع، وحتى ريبورتاجات على الطريق العام، وكان المجتمع يضحك عليها ويطبع معها يوما بعد يوم فيما تنظر إليها السلطة دون أن تضع لها حدا، فهل كانت الأخلاق الحميدة في إجازة آنذاك؟
ما نعيشه اليوم من انفلات هو نتيجة ما سربه الإعلام وأقطابه للشعب، نتيجة تراكم التفاهة في البرامج التلفزيونية والإذاعية وحتى صفحات السوشيال ميديا. وما يتناساه البعض أن العوالم الافتراضية عامة هي عوالم للحرية، بين جدرانها المزيفة يتحرر أغلب مستخدموها من ضوابط الحياة والسلوك العام، ليمارسوا جزءا من حريتهم في الفعل والقول، يكفي أن يراقب المرء أحد معارفه ليرى أي إنسان هو على تيك توك وإنستغرام. لكنها أيضا عوالم للإدمان، إدمان الإنسان على الدوبامين الذي يمنحه إياه وجوده على أي موقع ولا يمكن علاجه بسهولة.
في إطار هذا اللغط الحاصل، لو كانت “حميدة” قادرة على النطق لسلمت على الجميع وقالت “الكل يعرفني كما يريد، لكن وضع القوانين لا يكفي لأن تصنع مجتمعا متحضرا واعيا، عليكم بإستراتيجية شاملة وإلا طالت إجازتي المرضية”.