قرار مجلس الوزراء بتجميد النظام الجمركي الجديد يمثل خطوة جريئة تُبرز التزام الحكومة بمراجعة وتقييم سياساتها الاقتصادية بشكل دوري. إن هذا القرار يعكس فهم الحكومة لضرورة التعامل بمرونة مع التحديات الناشئة عن تطبيق السياسات السابقة، خصوصًا بعد أن أظهرت نتائج النظام الجمركي الجديد آثارًا سلبية على النشاط الاقتصادي. ومن الواضح أن الحكومة استدركت خطورة المسار الذي سلكته، فأقدمت على هذا التجميد لضمان استمرارية الحركة الاقتصادية والحفاظ على المصلحة العامة. قبل عامين، أقدمت الحكومة السابقة على تقليص فئات التعرفة الجمركية من 16 فئة إلى أربع (0 %، 5 %، 15 %، 25 %)، معلنة أن هذا التغيير سيجعل السوق المحلية أكثر جاذبية للاستثمار والتجارة، لكن الأثر الذي صاحب هذا القرار سرعان ما اصطدم بالواقع، ففي السنة الأولى من التطبيق، انخفضت المستوردات بحوالي 25 مليون دينار، وهو انخفاض كبير أثّر بشكل مباشر على الإيرادات الجمركية، حيث كان هذا نتيجة لخطأ في تقدير رد فعل السوق؛ فقد افترضت الحكومة أن تخفيض الرسوم الجمركية سيؤدي إلى زيادة في الاستيراد، لكن المستوردين تصرفوا بذكاء تجاري، حيث أخروا عملياتهم انتظارًا لمزيد من التخفيضات الجمركية في المستقبل، ما أدى إلى انخفاض أكبر في حجم المستوردات وإيرادات الدولة. المشكلة لم تقتصر على تراجع الإيرادات الجمركية فحسب، بل امتدت لتؤثر على الصناعات المحلية بشكل سلبي، إذ إن تلك الصناعات التي كانت تعتمد على الحماية الجمركية، وجدت نفسها تواجه منافسة شرسة من المنتجات المستوردة التي أصبحت أرخص بفضل التخفيضات الجمركية. وهذا أدى إلى ضغوط كبيرة على الشركات المحلية في وقت كانت فيه الصناعات في الدول الأخرى محمية بسياسات حمائية صارمة، ورغم محاولات الحكومة في البداية لتجنب فرض الرسوم المخفضة على السلع المنتجة محليًا، إلا أن العديد من هذه السلع سقطت سهواً ضمن هذا القرار، مما جعل الصناعات المحلية في موقف ضعيف وغير متكافئ أمام المنافسة الأجنبية. وفي ظل هذا التدهور، تفاقمت الخسائر المالية مع مرور الوقت، فبعد الانخفاض الأولي الذي بلغ 25 مليون دينار، استمرت الإيرادات في الانخفاض حتى وصلت بحلول الشهر الحالي إلى نحو 90 مليون دينار، وهو رقم يعكس حجم الانخفاض الذي نتج عن هذا القرار. هذا التراجع في الإيرادات الجمركية أظهر بوضوح ضعف التخطيط وسوء تقدير الحكومة السابقة لردود فعل السوق والمستوردين، مما ألقى بظلاله على الاقتصاد الوطني بشكل أكثر حدة مما كان متوقعًا. وفي الوقت الذي كانت فيه الدول الأخرى تتخذ تدابير لتعزيز الحماية الجمركية لمنتجاتها وسط الاضطرابات الاقتصادية العالمية، اختارت الحكومة السابقة تقديم تنازلات مجانية، مما كان له أثر سلبي على الاقتصاد الوطني. قرار التجميد الذي تم اتخاذه مؤخرًا يُعدّ ضرورة لا مفر منها لإصلاح المسار، لكنه ليس الحل الكامل، فالمطلوب الآن هو تجاوز مجرد التجميد إلى إعادة بناء النظام الجمركي من جديد وفق رؤية مدروسة تعتمد على بيانات وأرقام دقيقة، لضمان تحقيق توازن بين حماية الصناعة المحلية وزيادة الإيرادات الحكومية دون التضحية بجاذبية السوق. إن التحديات التي يواجهها الاقتصاد اليوم تستدعي من الحكومة اتخاذ خطوات جذرية لتصحيح الأخطاء السابقة واعتماد سياسات أكثر فاعلية وواقعية، فالقرارات الاقتصادية يجب أن تتسم بالشمولية والتكامل، مع التركيز على تعزيز الاقتصاد الوطني على المدى الطويل، وليس مجرد اتخاذ إجراءات مؤقتة تفتقر إلى الاستدامة.
قرار شجاع* سلامة الدرعاوي
6