عروبة الإخباري –
بيروت تايم – جو حمّورة
في آخر سفح جبل حرمون، توجد عين مياه باسم يسوع المسيح. يتناقل أبناء قرية كوكبا الجنوبية خبراً مهماً حول قصة العين الواقعة في قريتهم، وكيف أنّ المسيح غرس عصاه هناك وأخرج ماءً ليشرب ويروي أمه وبعض تلاميذه. تؤكد بعض الكتب التاريخية هذه الرواية المتناقلة، ما يزيد من أهمية تاريخ تلك القرية المسيحية الواقعة بين حاصبيا ومرجعيون.
ليست كوكبا وحدها من تعاني اليوم من غياب الدولة وقذائف الجيش الإسرائيلي على حدٍ سواء، بل أخواتها أيضاً. كل قرى الجنوب أهملتها الدولة المركزية اللبنانية، التي راحت تنمي بيروت ومحيطها خلال العقود الماضية، متناسية أنّ أطراف البلاد المتناثرة عناصر أساسية في الجسد اللبناني ككل. القرى الجنوبية الأخرى، ذات الهوية الشيعية تحديداً، شملها عطف«حزب الله» وخدمات «حركة أمل»، فعمرت حجراً وبشراً. وحدها القرى المسيحية، مثل كوكبا والقليعة ورميش وعين إبل ودبل وعلما الشعب والقوزح، خرجت من بيدر السنوات الماضية دون طحين: لا الدولة اهتمت بها، ولا الأحزاب… ولا حتى الكنيسة.
في تلك القرى المسيحية الجنوبية، يبدو المشهد وكأنّ الزمن قد توقف الآن. ما بين الاجتياح الإسرائيلي البطيء وقذائفه المميتة التي أضعفت كل حركة وحياة، وبين صراع دائم لاختيار البقاء أو النزوح إلى بيروت والجبل والشمال، تعيش تلك القرى في حالة من الغموض والضياع. أبناء تلك القرى، الذين تعلقوا بأرضهم لقرون، يواجهون الآن خيارين: إما التشبث ببيوتهم وأراضيهم، رغم كلّ التحديات والظروف القاسية، أو مغادرتها نحو الشمال بحثاً عن حياة أكثر أماناً، وهكذا فعل بعضهم ولجأوا إلى أقربائهم في المتن وكسروان أو إلى بعض الأديرة والمدارس فيهما.
إهمال الكنيسة زاد من محنتهم. فبدلاً من أن تكون الراعي الذي يسند ويدعم هذا الحضور المسيحي في «بلاد البشارة»، غابت عنهم الكنيسة بشكل كبير، تاركة إياهم يواجهون مصيرهم وحدهم. اكتفت الكنيسة بالصلاة وتنظيم المسيرات الدينية وإضاءة الشموع، كأنّ هذه الأعمال تكفي لوحدها لدرء الخطر عنهم. لم يأتِهم الدعم الروحي أو المادي الجدي من تلك المؤسسة التي كانت يوماً ما منارة للأمل «في زمن الظلم والظلام». الأحزاب السياسية المسيحية، هي الأخرى، لم تلعب أي دور فاعل في دعم هذه القرى. بعض الخطابات الرنانة وأكياس الرز والطحين لا تفيد كثيراً في زمن السلم، فكيف بالحري في زمن الحرب؟ في المقابل، استثمرت الأحزاب ذات الهوية الشيعية في بناء مجتمعاتها وتقديم الخدمات لها، لا بل في تأطير وتنظيم الفساد الذي يُغني البشر بالعملة الصعبة، فيما بقيت القرى المسيحية مهمشة، منسية، وغائبة عن أجندات الأحزاب التي من المفترض أن تمثلها.
يكرر الفيلسوف شارل مالك رؤيته لهذه القرى في مجمل كتبه، فيُعطيها غاية وجودية وخلاصية في آن. يقول عنها إنّها ستكون المنارة التي ستنير بصيرة اليهود وتعيد نشر المسيحية في الأراضي المقدسة. يذكر الفيلسوف الأهم في تاريخ لبنان الحديث هذه القرى ويذكر الموارنة منهم على وجه الخصوص، ويعطيها مهمة نشر ما يؤمنون به في وجدانهم وما يحملونه من حضارة في ذاكرتهم الجماعية. ليست عين المسيح في كوكبا وحدها من تحمل هذه المهمة بحسب مالك، بل كل مزار وكل صليب على رأس هضبة وكل مسيحي في الجنوب وفي كل لبنان.
في المقابل، تناست الأحزاب والكنيسة «رؤيا مالك»، ووضعت كتبه في الخزائن العتيقة وأهملتها إلى غير رجعة. تركت قرى الجنوب فريسة لإهمال الدولة، وطأة حضور «حزب الله» الثقيل على صدورهم، وحمم مدافع الجيش الإسرائيلي. هذه المصيبة المثلثة الأضلاع جعلتهم منسيين من الجميع، فيما الإعلام بالكاد يذكر وجودهم حتى عند تعداد القرى التي تعيش ضائقة من المعارك الدائرة بين الحزب والجيش الإسرائيلي.
على الرغم من كل هذا الألم والتهميش، يَظلّ هناك أمل ينبض في قلب تلك القرى. فكما غرس المسيح عصاه في كوكبا وأخرج الماء الحيّ ليشرب منه العطشى، هكذا سيخرج من هذه الأرض الجنوبية التي عانت من الاحتلال والقهر، شعبٌ يرفض الاستسلام، شعبٌ متمسك بجذوره وبإيمانه. إنّ أبناء هذه القرى لم ولن يكونوا مجرد أرقام في صراع أو مجرد أصوات خافتة في صخب السياسة؛ بل هم ورثة حضارة وإيمان، رسالتهم أعظم من أن تمحوها بضعة أشهر عجاف.
الأمل لا ينبع من الدولة التي تخلت عنهم، ولا من الأحزاب التي نسيتهم، بل من روح الصمود التي ورثوها عن أجدادهم، وهي كل ما تبقى لهم على جميع الأحوال. تلك الروح التي لطالما ناضلت في وجه الغزاة والمحتلين عبر التاريخ، وتخطت كل المصاعب من أجل الحفاظ على هويتهم وإيمانهم. هؤلاء تحملوا سيف أدهم خنجر، صيحات الفلسطينيين الاستشهادية وكاتيوشا «حزب الله» وراياته السوداء. هؤلاء ليسوا قلة ولن يكونوا. أملهم اليوم ليس فقط في البقاء، بل في القدرة على إحياء قراهم، في إعادة بناء ما دمرته الحرب والإهمال في المستقبل القريب، وفي استعادة مكانتهم كجزء لا يتجزأ من لبنان.
الكنيسة، رغم تقصيرها في الماضي، يمكنها أن تعود إلى دورها الريادي، إلى تلك المنارة التي تنير الطريق أمام أبنائها. وكما كانت الكنيسة في القرون الماضية ملاذاً للمضطهدين ومصدر قوة لهم، فهي مدعوة اليوم لتكون حاضرة، لا فقط من خلال الصلاة، بل من خلال العمل الجاد لدعم أهل الجنوب. يمكن للكنيسة أن تكون القوة الدافعة لإعادة التواصل بين أبنائها، لتساعد في ترسيخ أقدامهم في أرضهم، ولتشجعهم على عدم الهجرة والنزوح، وتعيد لهم الثقة بأن المستقبل ليس محكوماً باليأس.
أما الأحزاب المسيحية، فهي مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بالعودة إلى جذورها، إلى القضية التي تأسست من أجلها. إذا أرادت أن تبقى فاعلة ومؤثرة، يجب أن تتجاوز الشعارات والخطابات المملة والرتيبة، وتبدأ في وضع خطط طوارئ وأخرى تنموية حقيقية للجنوب بعد هدوء أزيز الرصاص. قد لا يكون ذلك سهلاً في ظل الأوضاع الراهنة، ولكن الأمل الحقيقي يكمن في تلك الخطوات الصغيرة التي تبدأ بإحياء أمل الناس بالعودة إلى قراهم.
إنّ الأمل لا يأتي من الخارج، بل ينبع من الداخل. وكما قال شارل مالك، فإنّ هذه القرى، بقوتها الداخلية وبإيمانها العميق، قادرة على أن تكون منارة جديدة، لا فقط للبنان، بل للشرق بأسره. الأرض التي شهدت معجزات المسيح قادرة على أن تشهد معجزة جديدة، معجزة الحضور والصمود والبقاء. فما دامت الأجراس تُقرع، وما دام التراب يتنفس تحت أقدام أهله، فإن الأمل سيظل حياً، ينتظر أن يثمر في سفوح حرمون بلاد البشارة.
إنّ العودة إلى هذه القرى ليست مجرد رجوع إلى بيت أو أرض في الغد، بل هي عودة إلى هوية وتاريخ أصيلين. هذه الهوية، التي تجسدها أجراس الكنائس القديمة وأيقونات القديسين في كل بيت، تمنح الأجيال الجديدة القوة للتمسك بأرضهم والوقوف في وجه كل من يحاول اقتلاعهم منها. وكما نهضت هذه القرى بعد كل نكبة، ستنهض من جديد، لأنّ نبع مياه المسيح لن يجف أبداً.