عروبة الإخباري –
في المقال السابق، توقفت أمام طوفان الأقصى ما له وما عليه، وفي هذا المقال سأتوقف أمام أهداف المقاومة، وتحديدًا كتائب القسام، من هذا المعركة، وليس الهدف نقد المقاومة، وإنما استمرارها وتطويرها بما يمكنها من تحقيق الانتصار؟
هناك نظريتان أو ثلاثة لأهداف طوفان الأقصى:
صفقة تبادل للأسرى
النظرية الأولى أن الهدف الأساسي منها هو التوصل إلى صفقة تبادل للأسرى، ويستند أصحاب هذه النظرية إلى أن العملية أدت إلى أسر 240 إسرائيليًّا مدنيًّا وعسكريًّا، وأن أحد المطالب التي قدمتها المقاومة هو تبييض السجون من الأسرى، وأحد الأهداف الإسرائيلية المعلنة من العدوان وحرب الإبادة إطلاق سراحهم، وأن أحد بنود المفاوضات تتعلق بصفقة تبادل للأسرى.
وكذلك يستند متبنو هذه النظرية إلى تعهد يحيى السنوار رئيس حماس في القطاع في حينه، ورئيس الحركة حاليًا، لزملائه في الأسر عند إطلاق سراحه بأنه لن يتخلى عنهم. وهناك حادثة تدعم هذه النظرية وهي أن مهرجان ذكرى انطلاقة حماس في كانون الأول 2022، قُرِأت فيه رسالة من الهيئة القيادية لأسرى حماس تضمنت انتقادات قوية لقيادة الحركة لأنها أهملت مسألة الإفراج عن الأسرى، وعندما سئل قيادي من حماس عن مغزى ذلك، أجاب أن يحيى السنوار أصر على قراءة الرسالة من دون حذف الانتقادات، لأنها صحيحة، حيث لم يتم تنفيذ الوعد بإطلاق سراحهم.
وفي مقابلات عدة أجراها عدد من قيادة حماس أكدوا أن من أهم أهداف طوفان الأقصى إطلاق سراح الأسرى.
وتحدث موسى أبو مرزوق في ندوة في الجزائر عقدت بمناسبة مرور عام على طوفان الأقصى، قال لم نكن نتوقع أن يمتد الطوفان لأكثر من أسبوع أو ثلاثين أو خمسين يومًا كما حدث في حرب 2014، وأن المعركة كانت تستهدف كسر فرقة غزة التي تحاصر القطاع منذ 17 عامًا.
بداية التحرير
النظرية الثانية أن عملية طوفان الأقصى تمثل بداية لمعركة التحرير، أو خطوة كبيرة على طريق التحرير، وهذا يدل عليه الخطاب الأول لمحمد الضيف قائد القسام وخطابات أبو عبيدة وتصريحات قيادات من حماس، حيث طالب الضيف وغيره بمشاركة مختلف الجبهات والساحات، وحدد عددًا من الأهداف التي تبدأ بوقف الاعتداءات على الأقصى والضفة الغربية، ولا تنتهي بإطلاق سراح الأسرى ورفض التطبيع ودمج إسرائيل في المنطقة، وفك الحصار على قطاع غزة، مع الإشارة إلى أنها معركة التحرير.
وتستند هذه النظرية إلى حجم المعركة التي شارك فيها على الأقل 1500 مقاتل، وإجراء تدريبات على تحرير أرض محتلة، وتصريحات بشأن تحرير الضفة والقطاع خلال وقت قصير، وتسمية مهرجان حماس في ذكرى تأسيسها “آتون بطوفان هادر”، إضافة إلى عقد الحركة برعاية رئيسها في قطاع غزة مؤتمر “وعد الآخرة”، الذي تضمن هدف تحرير فلسطين خلال وقت قصير، وتكليف أشخاص من المشاركين بإدارة ورئاسة بلديات داخل الخط الأخضر، ولا غضاضة بالحلم ولكن الخطأ بتصور تحقيقه من دون تغيير جدي وحاسم في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية.
والشيء بالشيء يذكر، حيث جاء في أحاديث وخطابات على لسان قيادات بارزة من حماس بأن زوال إسرائيل سيحدث في العام 2022، استنادًا إلى اجتهاد الشيخ بسام جرار، أو في العام 2027 استنادًا إلى ما صرح به الشيخ الشهيد أحمد ياسين بأن دولة الاحتلال ستزول عندما تبلغ من العمر ثمانين عامًا. وهناك تقديرات وردت على لسان قادة من حماس بأن الفلسطينيين وحدهم قادرون على تحرير فلسطين أو الضفة الغربية وقطاع غزة.
وما جاء في صحيفة نيويورك تايمز منذ أيام عن محاضر زعم بأنها وجدت في أنفاق غزة جاء فيها أن حماس عرضت أكثر من مرة على حزب الله شن هجوم مشترك، وكان رد الحزب الموافقة المبدئية والاعتراض على التوقيت، حيث هناك حاجة إلى المزيد من الاستعدادات والحشد. وهذا يعني أن حماس كانت تتوقع أكثر عندما تبادر إلى الطوفان من حرب الإسناد من بقية أطراف محور المقاومة، بعد الالتزام بوحدة الساحات منذ معركة سيف القدس، وهذا ظهر من خلال تصريحات لقيادات من حماس بعد السابع من أكتوبر تشكر حزب الله وتطالبه بالمزيد.
خلط الأوراق والتحريك
النظرية الثالثة تستند إلى وجود هدفين أو سقفين لطوفان الأقصى، يمثل السقف (الهدف) الأول الحد الأدنى، ويتضمن معركة مؤقتة تستهدف خلط الأوراق، عبر استهداف فرقة غزة، وأسر عشرات الجنود الإسرائيليين، والسعي إلى عقد صفقة تبادل، وتحريك الأمور لجهة رفع الحصار عن القطاع، ووقف الاعتداءات على الأقصى وفي الضفة الغربية، وإنهاء الاحتلال عن الأراضي المحتلة العام 1967، والتعامل مع الشرعية الدولية، مع أولوية إطلاق سراح الأسرى، ووقف مسار التطبيع ودمج إسرائيل في المنطقة تمهيدًا لإقامة الممر الهندي.
والسقف الثاني يمثل الحد الأقصى من خلال أن تكون عملية طوفان الأقصى بداية حرب التحرير، وهذا يعكس نوعًا من الجمع ما بين تحقيق المهمات المباشرة مثل التحريك وتحرير الضفة وغزة، وبين التحرير الشامل.
في هذا الوقت وفي ظل المعطيات المتوفرة، لا يمكن الجزم بشكل حاسم وقاطع بأي النظريات هي الحقيقية أو الأقرب إلى الحقيقة. ولكن يمكن تأكيد أن طوفان الأقصى عملية عسكرية عبقرية من حيث التخطيط والتنفيذ والإنجاز، وما تضمنته من قدرة على التمويه واختراق كل الإجراءات والرادارات والحواجز الإسرائيلية التقليدية والتكنولوجية المتقدمة، ومن صمود أسطوري لأكثر من عام في ظل اختلال فادح في موازين القوى، وأن طوفان الأقصى معركة كبرى ستحفر اسمها في التاريخ وستترك آثارها على الصراع لفترة طويلة قادمة، وهي ستشكل حافزًا ودافعًا لحركات جديدة فلسطينية وغير فلسطينية لتكرارها، لأنها أظهرت إمكانية هزيمة دولة الاحتلال وزيف ادعائها بأن جيشها لا يقهر، لذلك تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى تحقيق انتصار واضح لا لبس فيه، لأن عدم خروجها بانتصار واضح يعني أن وجودها في المنطقة بات محل تساؤل، وأنها لن تكون قادرة على القيام بدورها الإستراتيجي في إطار المشروع الاستعماري.
على الرغم من صعوبة الحسم بأهداف القسام من طوفان الأقصى، فإنه يمكن ترجيح أن نتائج العملية من حيث حجم الإنجاز والانهيار والشلل في دولة الاحتلال فاق توقعات المخططين الذين لم يعرفوا ماذا يفعلون.
حرب وجود تحوّلت إلى حرب نفوذ
كانت ردة الفعل الإسرائيلية وأطراف المعسكر الاستعماري، خصوصًا حكام واشنطن، أقوى بمرات عديدة من التوقعات، فقد شنت حكومة نتنياهو حرب إبادة ما زالت مستمرة منذ أكثر من عام، ولا تزال مرشحة للاستمرار، لأن حكومة اليمين المتطرف الحاكم تصرفت أنها أمام معركة وجودية، وتعاملت معها بوصفها فرصة تاريخيّة، وحوّلتها من حرب وجود ومصير لإسرائيل إلى حرب وجود لمحور المقاومة، وحرب نفوذ تهدف إلى تصفية حسابها مع قوى المقاومة، وكذلك فرصة لتنفيذ مخططاتها إزاء الشعب الفلسطيني وحقوقه وأرضه، من أجل رسم شرق أوسط جديد تهيمن عليه إسرائيل.
إذا كانت القسام كانت تتصور فعلًا كما يعتقد أنصار النظرية الثانية والثالثة أنها يمكن أن تشن حرب التحرير اعتمادًا على الفلسطينيين وحدهم ومن دون اتفاق محكم مع محور المقاومة وجميع الساحات والجبهات، وفي ظل الأوضاع الفلسطينية والعربية والدولية غير المواتية، تكون قد نفذت مغامرة كبرى لا تملك أي فرصة للنجاح، فإسرائيل ليست مجرد دولة متحالفة مع المعسكر الغربي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية أقوى دولة في العالم، بل هي ترتبط بعلاقات عضوية إستراتيجية، وتقوم بدور مهم جدًا يساهم في الحفاظ على المصالح الاستعمارية والهيمنة على شعوب وبلدان المنطقة.
العالم يتغير ولكنه لم يصل إلى عالم جديد
صحيح أن هناك متغيرات في المنطقة والعالم، فالعالم القديم بزعامة أميركا يتراجع، وهناك إرهاصات لعالم جديد تؤدي فيه الصين والجنوب دورًا كبيرًا، وهناك حراكات وسيولة وتحالفات وعلاقات جديدة، ولكنها لم ترتق إلى توفر ميزان قوى جديد وحدوث إقليم أو عالم جديد، والتغيّر لا يسير دائمًا بخط مستقيم إلى الأمام، بل يتقدم ويتراجع ويسير بمنحنيات، وعلينا التصرف على أساس هذا الفهم.
فعلى سبيل المثال، روسيا مشغولة كليًا في الحرب في أوكرانيا، وإيران أولويتها الحصول على قنبلتها النووية، وهي محاصرة وتعاني من العقوبات وتفضل حرب الاستنزاف عبر الحلفاء على الحرب المفتوحة معها، وحققت كذلك نفوذًا في الإقليم لكنه مهدد ولا يسمح حتى الآن بتغيير خريطة المنطقة، بل باتت الآن معرضة لخوض حرب لا تريدها وغير جاهزة لها، ولكنها ستخوضها إذا كان لا مفر منها.
أما الصين فتقوم بدور سيارة الإطفاء والإسعاف، وتتدخل عن بعد وبشكل غير مباشر، ولا تريد خوض حرب مع الولايات المتحدة قبل أوانها، فهي تخطط لقيادة العالم في العام 2049، وتسعى إلى ضم تايوان بعد سنوات عدة وفي وقت مناسب لا يؤدي إلى حرب قبل أوانها .
في كل الأحوال، أي حرب أو معركة كبيرة بحجم طوفان الأقصى كانت تستوجب دراسة كل الاحتمالات والسيناريوهات والاستعداد لها، ويتوجب الآن دراسة السيناريوهات المحتملة واستشراف المستقبل، إذ نواجه سيناريوهات عدة، أبرزها انتصار المقاومة أو هزيمتها، أو انتهاء المعركة بلا غالب ولا مغلوب، وادعاء كل طرف أنه المنتصر مستشهدًا بنقاط حققها لصالحه، مع العلم أن الطرف الضعيف يُعدّ منتصرًا إذا لم يهزم، والطرف القوي منهزمًا إذا لم ينتصر، من دون التقليل من أننا لا يمكن أن نتحدث عن انتصار بكل معنى الكلمة في ظل حرب الإبادة والتهجير والضم والسعي لتصفية القضية الفلسطينية التي لا تزال مفتوحة ولم تغلق حتى الآن.
هذه الحرب لن تنتهي كما يبدو حتى الآن بضربة قاضية بل بالنقاط، وتتوقف نهايتها على قدرة المقاومة في فلسطين ولبنان وبقية أطراف محور المقاومة على الصمود، والقدرة على تكبيد القوات المحتلة خسائر بشرية فادحة تدفع الحكومة الإسرائيلية إلى وقف العدوان قبل تحقيق كل أهدافه.
كما تتوقف نهايتها على احتمالية اندلاع حرب إقليمية لا تريدها أطراف إقليمية ودولية خشية من عواقبها وتداعياتها، ونظرًا إلى أننا نعرف متى تبدأ ولا نعرف متى وكيف ستنتهي. وسيؤثر على سير الحرب كذلك نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية والموقفان الأميركي والدولي بعدها، لذا تبقى الأيام القادمة حتى الخامس من تشرين الثاني القادم مهمة جدًا، لأنها ستشهد على الأغلب مسعى من حكومة نتنياهو لفرض حقائق جديدة لا يمكن العودة عنها بغض النظر من الفائز في الانتخابات الأميركية.
وفي الختام، من دون مقاومة بكل أشكالها لا يمكن تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني، ولكن المقاومة لا بد أن تكون ضمن رؤية شاملة عقلانية تهدف إلى تغيير الواقع وليس الخضوع له أو القفز المغامر عنه. رؤية تتضمن تصورات تحدد المراحل المختلفة، وأشكال العمل والنضال في كل مرحلة، والأهداف المباشرة والنهائية، حيث يتم إنجاز الأهداف القابلة للتحقيق في كل مرحلة على طريق التقدم لتحقيق الأهداف النهائية.
كما تتضمن الرؤية بالضرورة أدوات وإستراتيجيات عدة تتضافر معًا على يد قيادة وطنية واحدة ومؤسسات وطنية جامعة، تسعى جاهدة إلى حشد طاقات الشعب الفلسطيني وكفاءاته وقواه في كل مكان داخل الوطن وخارجه