عروبة الإخباري – بقلم الصحفية الجزائرية نزهة عزيزي –
الفكر العلماني في الجزائر موضوع معقد ومتعدد الأبعاد، تتداخل فيه الجوانب التاريخية، الاجتماعية، والسياسية. فمنذ استقلال الجزائر عن الاستعمار الفرنسي عام 1962، مرّت البلاد بمراحل متعددة من الصراع الفكري والتوجهات السياسية، وكان للفكر العلماني دوره في هذا السياق، حيث ساهم في تشكيل بعض الاتجاهات الثقافية والسياسية. للتعمق في هذا الموضوع، من الضروري استعراض الجذور التاريخية لهذا الفكر في الجزائر، مع التركيز على تطوره منذ الاستقلال إلى يومنا هذا من خلال الدراسات والمقالات المنشورة في الصحافة الجزائرية.
الإرث الكولونيالي وتأثيره على الفكر العلماني
أحد الجوانب التي لا يمكن تجاهلها عند الحديث عن الفكر العلماني في الجزائر هو التأثير العميق لفترة الاستعمار الفرنسي (1830-1962). فرنسا كانت دولة علمانية، وقد سعت خلال فترة احتلالها للجزائر إلى فرض قيم العلمانية من خلال التعليم والسياسة الثقافية. تم تأسيس نظام تعليمي فرنسي يروّج للقيم العلمانية ويفصل بين الدين والدولة، حيث عملت الإدارة الفرنسية على تقليص دور المؤسسات الدينية الإسلامية، واستبدالها بمؤسسات علمانية تديرها الدولة.
وعلى الرغم من مقاومة الشعب الجزائري لهذه المحاولات، إلا أن بعض النخب الجزائرية التي تلقت تعليمها في المدارس الفرنسية تأثرت بالفكر العلماني. العديد من الجزائريين الذين درسوا في فرنسا أو في المدارس الفرنسية داخل الجزائر انخرطوا فيما بعد في الحياة السياسية، وكان لهذا تأثير على تفكيرهم فيما يخص قضايا الدين والدولة.
- الفكر العلماني بعد الاستقلال: الصراع بين الدين والدولة
بعد استقلال الجزائر عام 1962، كان هناك نقاش حاد حول هوية الدولة الجزائرية الجديدة. الرئيس أحمد بن بلة، ثم الرئيس هواري بومدين، سعيا إلى بناء دولة ذات هوية عربية وإسلامية واضحة، بينما كانت بعض النخب المتعلمة في فرنسا تتبنى رؤية علمانية للدولة. لم يكن من السهل إقامة توازن بين هذه الرؤى المختلفة، خاصة في ظل دور الدين كعامل موحد في الكفاح ضد الاستعمار.
خلال هذه الفترة، نجد بعض المقالات والدراسات المنشورة في الصحافة الجزائرية تتناول الصراع بين التيار الإسلامي والتيار العلماني، مثل مقالات في جريدة “المجاهد” و”الشروق”، التي كانت تستعرض النقاشات الدائرة حول مكانة الدين في الحياة العامة، ومحاولة توجيه الدولة نحو نهج اشتراكي قومي لا يتناقض مع الهوية الإسلامية
- الفكر العلماني وتفاقم الصراع في التسعينيات
شهدت الجزائر في التسعينيات فترة عصيبة، تمثلت في الحرب الأهلية التي اندلعت بعد إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية عام 1991، التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ. هذه الفترة، المعروفة بالعشرية السوداء، كانت ذروة الصراع بين التيار الإسلامي والتيارات الأخرى بما فيها العلمانية. خلال هذه الفترة، تزايد الاهتمام بالفكر العلماني كوسيلة للحد من تأثير التيارات الإسلامية المتشددة على الدولة والمجتمع.
الصحافة الجزائرية في هذه الفترة كانت تعكس هذا الصراع بوضوح. نشرت صحف مثل “الخبر” و”الوطن” مقالات تنتقد التطرف الديني، وتدعو إلى بناء دولة مدنية تفصل بين الدين والسياسة. بعض المثقفين مثل كمال داود ومالك بن نبي كتبوا عن الحاجة إلى تبني القيم العلمانية كحل لتجنب الفوضى والعنف، حيث رأوا أن العلمانية قد تكون الحل الأمثل لضمان التعايش السلمي في مجتمع متعدد الأديان والآراء.
- الفكر العلماني في العصر الحديث: بين التقبل والرفض
في الألفية الثالثة، مع تحسن الوضع الأمني والسياسي في الجزائر، شهدت الساحة الفكرية نقاشات جديدة حول العلاقة بين الدين والدولة. في ظل تصاعد حركات المطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ظهر جيل جديد من المثقفين يدافع عن العلمانية كضمانة للحريات الفردية والمساواة
في السنوات الأخيرة، نلاحظ أن الصحافة الجزائرية، مثل “إيلاف” و”الحوار”، بدأت تتناول قضايا العلمانية بعمق أكبر. تناولت بعض المقالات كيف يمكن للعلمانية أن تلعب دورًا في تحديث المجتمع الجزائري وتجاوز الخلافات الدينية والسياسية. ورغم ذلك، لا تزال العلمانية موضوعًا حساسًا لدى العديد من الجزائريين الذين يرون أن أي محاولة لفصل الدين عن الدولة تمثل تهديدًا لهويتهم الإسلامية.
الفكر العلماني في الجزائر بين الإرث والتحديات المستقبلية
الفكر العلماني في الجزائر تطور في سياق تاريخي واجتماعي معقد، متأثرًا بالاستعمار الفرنسي، ومجابهًا لتحديات ما بعد الاستقلال، وخاصة في فترات الأزمات السياسية والاجتماعية. ورغم المحاولات المتعددة لتعزيز الفكر العلماني، إلا أنه لم يتمكن من اكتساب قاعدة شعبية واسعة، نظرًا للاعتراضات القوية من التيار الإسلامي والمجتمع المحافظ.
ما زال النقاش حول العلمانية مستمرًا في الجزائر، ولا تزال الصحافة تلعب دورًا رئيسيًا في هذا النقاش. يمكن القول أن الفكر العلماني في الجزائر يواجه تحديات كبيرة، ولكنه يظل جزءًا من الحوار الوطني حول مستقبل الدولة والمجتمع، وخاصة في ظل التغيرات الاجتماعية والسياسية التي تشهدها البلاد في السنوات الأخيرة.