عروبة الإخباري –
الديار – ندى عبد الرزاق –
يعتبر النزوح من أبرز الأزمات الإنسانية تأثيرا في الأفراد والمجتمعات، حيث يترك آثارا عميقة في جميع جوانب الحياة. في ظل الحروب والصراعات، يُجبر الملايين على مغادرة منازلهم وقراهم بحثًا عن الأمان. يؤدي هذا التحرك القسري نحو بيئات جديدة إلى تغييرات جذرية في الحياة اليومية، خصوصا على المستوى الاجتماعي والعائلي.
لا يقتصر النزوح فقط على الانتقال الجغرافي، بل يحمل معه تحديات كبيرة تتعلق بالتكيف مع بيئات جديدة، تختلف ثقافيا ودينيا عن البيئة الأصلية، مما ينعكس بشكل مباشر على استقرار العلاقات الأسرية والاجتماعية.
تعددت العلل ويبقى النزوح واحدا!
وفقا لخبير وعضو في نقابة النفسانيين والاجتماعيين في لبنان، “فان العوامل التي تؤدي إلى النزوح تتباين، لكن السبب الأكثر شيوعا هو اندلاع الملاحم والاشتباكات المسلحة، التي تشكل تهديدات مباشرة على حياة المدنيين”.
واكد ان “هذه النزاعات تتسبب بتدمير المنازل والبنية التحتية، مما يُرغم العائلات على الفرار بحثا عن الأمان. أحيانا تكون الهجرة داخلية ضمن حدود الدولة، وأحيانا خارجية نحو بلدان مجاورة أو بعيدة، وغالبا ما تكون هذه البيئات الجديدة مختلفة تماما من حيث الثقافة واللغة والدين”.
وفي كبارنا… تجسيد لقوة الإرادة والشموخ
في لبنان، تُعد الحروب مع “إسرائيل” واحدة من أبرز أسباب النزوح المتكرر. من حرب 1982، وصولا إلى حروب 1996 و2006، شهدت المناطق الجنوبية والضاحية الجنوبية لبيروت موجات مغادرة هائلة. يتذكر المعمر أبو علي من إحدى القرى الحدودية، كيف كان الناس يتفرقون بحثا عن السكون، ويقول لـ “الديار”: “في كل مرة نُضطر الى مفارقة منازلنا، نشعر بأننا نترك جزءا من حياتنا وراءنا. لم تأخذ هذه المعارك منا المنازل فقط، بل أثرت في العلاقات الاجتماعية والعائلية بشكل لا يمكن تصوره. كانت العائلات تنهار تحت الضغوط، والبعض لم يتمكن من استعادة تماسكه بعد انتهاء المواجهات”.
أثر النزوح في العلاقات الأسرية
من جهتها، تشير الاختصاصية النفسانية والاجتماعية غنوة يونس لـ “الديار” الى ان “العلاقات الأسرية تتأثر بشكل كبير خلال عمليات التغريب. في مراكز الإيواء أو البيئات الجديدة، يعيش أفراد الأسرة في ظروف مزدحمة وغير مريحة، مما يزيد من الضغوط النفسية والجسدية، يمكن ان تؤدي هذه الأوضاع إلى تصاعد التوترات بين أفراد الأسرة، وقد تصل إلى تفكك العلاقات الزوجية أو تصاعد العنف الأسري، نتيجة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية”.
وتشير الى انه بالإضافة إلى ذلك، “يُحرم الأطفال من البيئة الآمنة والداعمة التي كانوا يعيشون فيها، مما يؤثر في صحتهم النفسية وسلوكهم الاجتماعي”.
ضريبة الاندماج مع محيط جديد
وتستكمل “يُعد التكيف مع بيئات جديدة تختلف ثقافيا ودينيا، أحد أكبر التحديات التي تواجه النازحين. اذ يجد هؤلاء أنفسهم في مجتمع جديد، بعادات وتقاليد قد تكون غريبة عليهم، مما يؤدي إلى شعور بالغربة والعزلة، بخاصة في حالة الفئات الأكثر ضعفا مثل النساء والأطفال. وقد يزيد هذا الوضع من التوترات بين المهجرين والمجتمعات المضيفة، حيث تنشأ بعض الصدامات الثقافية والدينية نتيجة اختلاف الخلفيات”.
السلبيات
وتؤكد ” ان أبرز السلبيات تتجلى في انهيار الأسر، إذ يعاني الكثير من الأزواج من التوتر والضغط النفسي الذي يولد مشكلات داخلية قد تؤدي إلى الافتراق. يقاسي الأطفال، بدورهم، من اضطرابات نفسية بسبب الانفصال عن بيئتهم الطبيعية والعيش في أماكن غير مستقرة. كذلك، يمكن أن يتعرض النازحون لوعكات صحية نتيجة تدني مستويات الرعاية الطبية في مراكز الإيواء. من جهة أخرى، تؤدي اختلافات الثقافة والدين إلى تصاعد الصدامات المجتمعية مع السكان المحليين”.
الإيجابيات
وتعتبر انه في المقابل، “وعلى الرغم من التحديات، قد تنشأ بعض الإيجابيات في حالات النزوح، حيث تبرز قيم التضامن والتكافل الاجتماعي في بعض المجتمعات المضيفة التي تسعى الى مساعدة النازحين. وقد يساهم العيش في بيئات جديدة في تعزيز الانفتاح والتفاهم بين الثقافات المختلفة. وبذلك، تتمكّن بعض الأسر من التلاؤم وإعادة بناء حياتها بعد تخطي الصدمة الأولى، وهنا يبرز دور المنظمات الإنسانية في تقديم الدعم اللازم لتوطيد هذا التكيف”.
تجارب المعمرين في زمن النزوح
في زوايا جامع محمد الأمين في ساحة الشهداء، افترش عدد كبير من النازحين الأرض، بحثًا عن مأوى من الأحداث الجارية، بينهم رجل مسن يبلغ من العمر ثمانين عاما، يدعى أبو جعفر. لم يكن اللقاء به عابرا، فقد حملت ملامحه تجاعيد الزمن التي عاصرت اشتباكات متعددة عاشها، ولعل أبرزها حرب تموز 2006، التي شهدت دمارا هائلًا وتهجيرا قسريا للعديد من العائلات.
يروي أبو جعفر تجاربه في هذه الحروب، قائلًا: “لقد عشت الكثير من المآسي، بدءا من الغزو الإسرائيلي عام 1982 مرورا بحرب تموز 2006. كل مرة كنت أشعر بالقلق والخوف، لكنني كنت أرى أيضا كيف تتجلى قوة الإنسان وقدرته على الصمود. لم أكن أتصور في عام 2024 أن أعود مرة أخرى للعيش في مثل هذه المنازعات”.
لا يتحدث أبو جعفر بنبرة منكسرة، بل يحمل كلامه إشراقا إيجابيا، فهو يرى أن هذه الأوقات الصعبة تعيد له ذكريات الماضي، حيث إن الهروب من منزله لم يكن جديدا عليه، بل كان اختبارا عاشه في شبابه. ويقول: “لقد اضطررت في شبابي للفرار من قريتي مرارا، لكنني كنت دائما أجد نفسي في بيئة جديدة، وأتعلم كيف أنسجم. أذكر كيف استقبلتنا المجتمعات المضيفة بالأغاني والضحكات، وكيف جعلتنا المحبة التي تجمعنا نتجاوز كل الصعوبات”.
ويتابع أبو جعفر، وهو ينظر إلى الأطفال الذين يلعبون حوله، “اليوم، أرى الشيء نفسه يحدث مرة أخرى. إن التفاعل بين الناس هنا رغم اختلافهم، يذكرني بتلك الأوقات الجميلة. الدين قد يكون مختلفا، لكن القلوب تبقى متقاربة. نحن نعيش معا، ونعتمد على بعضنا بعضا”.
ورغم كل التحديات التي يعيشها، في داخل أبو جعفر أملا كبيرا في أن تنتهي هذه الأزمة قريبا، ويعود إلى دياره. وبدلاً من أن يكون النزوح نهايةً له، يراه بداية جديدة وفرصة لإحياء الروابط بين الناس وتعزيز القيم الإنسانية التي تجمعهم. تظل كلمات أبو جعفر تتردد في الأذهان، ليؤكد أن الحياة تستمر، وأن قدرة الإنسان على التكيف هي من أقوى أسلحته في مواجهة الأزمات.
الصدمة والتماسك العائلي
ويوضح الخبير في الشؤون الاجتماعية والنزوح من الجامعة اللبنانية الدكتور مراد لـ “الديار”، “يعيش النازحون صدمة مزدوجة، تتمثل في فقدان ديارهم ومصادر رزقهم، وبالتالي الانتقال إلى بيئات غير مألوفة. يمكن أن تؤثر هذه الحالة بشكل كبير في التماسك الأسري، وفي بعض الحالات نلاحظ تصاعد العنف الأسري نتيجة الضغوط المتراكمة.”
ويضيف: “قد يستغرق التوافق مع المجتمعات المضيفة وقتا طويلا، وغالبا ما يحتاج إلى دعم نفسي واجتماعي، لضمان الحفاظ على العلاقات الأسرية وتجنب التفكك”.
كيفية المواءمة
وينصح مراد “بالعمل للتغلب على هذه التحديات، وذلك من خلال توفير الدعم النفسي والاجتماعي للنازحين من قبل الحكومات والمنظمات الإنسانية. بالإضافة الى ذلك، يؤدي التعليم والتوعية دورا مهما في تخفيف الصدمات النفسية وتعزيز قدرة الأسر على التكيف مع البيئات الجديدة. من الضروري أيضًا العمل على تعزيز الحوار بين المجتمعات المضيفة والنازحين، بهدف تقليل التوترات وتحقيق الانسجام الاجتماعي”.
النزوح ليس مجرد أزمة مكانية
ويتفق الخبراء في الختام على ان “النزوح يؤثر بعمق في العلاقات الاجتماعية والعائلية، وقد يكون له آثار سلبية طويلة الأمد إذا لم يتم التعامل معه بجدية. يتطلب التكيف مع هذه التحديات دعما نفسيا واجتماعيا مستمرا، بالإضافة إلى تأمين بيئة آمنة ومستقرة تساعد الأسر في الحفاظ على تماسكها. في ظل النزوح، تبرز الحاجة إلى تعزيز التفاهم بين المجتمعات المختلفة لتجنب الصدامات الثقافية والدينية”.
في الخلاصة، النزوح ليس مجرد أزمة مكانية، إنه تحول اجتماعي ونفسي يستوجب معالجة شاملة لضمان عودة الحياة إلى طبيعتها، والحفاظ على استقرار العلاقات الاجتماعية والعائلية.