عروبة الإخباري-
في خضم أزمة كارثية إضافية تواجه الجسد اللبناني الذي يعاني أمراض السياسة والاقتصاد والأمن كافة، يفاجىء الجميع باستقبال مطار بيروت لوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، الذي ذهب إلى بيروت على رأس وفد برلماني ليبعث برسالة تحد واضحة لدولة إسرائيل، ويلتقي رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الوزراء نجيب ميقاتي، الأمر الذي يثير الدهشة والتساؤلات حول تفكير القادة اللبنانيين وتقديرهم لما يواجه بلدهم من تحديات وجودية. الحقيقة أنَّ لبنان لم يكن بحاجة إلى إضافة بعد جديد لأزمته باستقبال الوزير الإيراني في هذه الظروف، وهو يدرك تماماً دلالات هذه الزيارة، وكيف يمكن أن تؤدي إلى ما يفوق طاقة لبنان، البلد الصغير، على التحمل.
الادعاء بأنَّ طائرة الوزير الايراني كانت تحمل نحو 10 أطنان من المساعدات الإنسانية والإغاثية ليس كافياً لفهم دوافع المسؤولين اللبنانيين لاستقبال الطائرة ومنح الإيرانيين الفرصة لإقحام أنفسهم بشكل متزايد في الشأن اللبناني، في وقت كان يفترض أن يتم فيه إبلاغ إيران بالكف عن التدخل في الشأن اللبناني وقطع ذيولها في هذا البلد، أو على الاقل العمل على تحقيق ذلك، لا سيما بعد مقتل حسن نصر الله.
ورغم تفهم عمق تجذر حزب الله وعناصره وأيديولوجيته وكذلك الطائفية التي تتوغل في الجسد اللبناني بشكل خطير، فإنَّ البعض كان يتصور أن توفر عملية اغتيال نصر الله ودخول حزب الله دوامة غير مسبوقة من الفوضى والارتباك الفرصة للسلطات اللبنانية لإحكام سيطرتها على البلاد والسعي باتجاه تحجيم نفوذ الحزب بعد التخلص من الهيمنة الكبيرة لزعيمه السابق على الحياة السياسية اللبنانية طيلة السنوات والعقود الماضية، ولكن ما حدث أنَّ المسؤولين اللبنانية لا يزالون أسرى الهواجس والتهديدات بالقتل والتفجير التي غرسها نصر الله في النفوس، ولم تزل هذه الهواجس المخيفة أكبر من الرغبة المفترضة في تحرير لبنان من قبضة الحزب.
رئيس الوزراء اللبناني أشاد في لقائه مع الوزير الإيراني بدعم طهران للبنان “في هذه الظروف الصعبة”، وهنا يبدو الأمر من المضحكات المبكيات، لأنَّ أكبر مسؤول لبناني في الوقت الراهن يتجاهل أن ما يحدث لبلاده هو بسبب إيران، ويشيد بدعمها في ظروف صنعتها بأيدي عملائها ووكلائها!
ثمة جانب آخر مهم للغاية يتعلق بمدى التعقيد الذي تنتجه زيارة الوزير عراقجي على الموقف اللبناني الرسمي الذي يستجدي العالم من أجل وقف إطلاق النار والضغط على دولة إسرائيل لوقف عملياتها العسكرية في الجنوب، إذ كيف يمكن للحكومة اللبنانية التي تستقبل طرفاً في الصراع وترحب به ـ شئنا أم أبينا ـ ثم تدعو العالم لإنقاذ بلادها والادعاء بأنها ضحية هجوم إسرائيلي! ثم كيف للعالم أن يفهم موقف الحكومة اللبنانية التي ترحب بوزير الخارجية الإيراني الذي يتحدى دولة إسرائيل من على أراضيها، وتحاول في الوقت ذاته أن تقنع العالم بأنها على استعداد للقبول بتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1701، والذي يدعو إلى وقف كامل للأعمال العدائية، ونزع سلاح جميع الجماعات المسلحة في لبنان بما في ذلك حزب الله بطبيعة الحال، والاحترام الكامل للخط الأزرق، وهو ما يرفضه حزب الله، المدعوم من إيران، رفضاً تاماً، كما أن الرسالة الضمنية التي تحملها زيارة الوزير الإيراني تتمثل في رفض تنفيذ القرار، لأنَّ المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي كان يؤكد في كلمته استمرار نهج المقاومة المسلحة بالتزامن مع وجود عراقجي في بيروت!
الحقيقة أنَّ كارثة لبنان لا تكمن في حزب الله فقط بل في ساسته الجبناء الذين لا يستطيعون تقدير موقف بلادهم، ويخشون على مناصبهم أكثر من خشيتهم على مستقبل شعبهم، ويكتفون بالتعبير عن القلق من مواجهة مصير غزة ثم يوافقون على استقبال من تسبب في سقوط غزة في هذا المصير، ومن الغريب أن تغامر الحكومة اللبنانية باستقبال طائرة الوزير الإيراني في مطار بيروت، وهي تدرك تماماً أنَّ هناك احتمالية ولو ضئيلة لتعرض المطار للقصف بسبب وجود الوزير الإيراني الذي تعيش بلاده حالة حرب غير معلنة مع دولة إسرائيل، وهو ما يعني أنَّ لبنان الرسمي يتمترس إلى جانب إيران في وقت يحاول فيه إظهار نفسه للعالم وكأنه يريد التخلص من كابوس حزب الله، في ازدواحية غريبة وخداع لا ينطلي على أحد.
مشهد استقبال عراقجي في بيروت في هذا التوقيت الحساس والظروف بالغة التوتر، يجسد أحد كوارث لبنان، ولن يخرج هذا البلد العربي منها سوى بالتخلص نهائياً من أبطال هذا المشهد وغيره ممن تسببوا في ما يواجهه لبنان من كارثة حقيقية جديدة، ويكفي أنهم أنفسهم من تسببوا في أن يبقى هذا البلد طيلة نحو عامين من دون رئيس!
لبنان الذي يعيش من دون رئيس وفي ظل حكومة تصريف أعمال يتخبط في قراراته وسياساته، ويتنقل بين الأزمات ولا يكاد يظهر أي قدرة على إدارة ما يواجهه من أزمات وأخطرها مايحدث الآن في الجنوب، ومنذ غياب نصر الله بالاغتيال لم يصدر عن مسؤول لبناني ما يفيد بأن هناك إرادة لطي هذه الصفحة والتعامل مع الذيل الإيراني بما يستحق أن يعامل به ولو بالاستعانة بإرادة المجتمع الدولي والقوى العربية الراغبة بصدق في مساعدة لبنان وشعبه.