وصلت بعثة صندوق النقد الدولي إلى المملكة لإجراء المراجعة الثانية للاتفاق الهيكلي الممتد للفترة
(2024-2028)، فهذه الزيارة ليست مجرد إجراء روتيني، بل هي محطة حاسمة في تقييم التزامات الحكومة الأردنية تجاه الإصلاحات المالية المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي. ما يفرضه هذا الوضع هو فهم واضح ومباشر بأن إدارة المالية العامة ليست مسؤولية وزير المالية وحده، بل هي مسؤولية جماعية يتحملها كل وزير في وزارته، والاعتقاد السائد بأن إدارة المالية العامة تقع فقط على عاتق وزير المالية هو اعتقاد خاطئ، فالمالية العامة هي نتاج سياسات كل وزارة وكل قطاع، وبالتالي، أي قرار مالي يتخذ في وزارة ما، سواء كان يتعلق بنفقات تشغيلية أو رأسمالية، له تأثير مباشر على الميزانية العامة للدولة، وهذا يعني أن المالية العامة ليست “ملكية” لوزير المالية وحده؛ بل هي مسؤولية جماعية يتحملها كل وزير في موقعه. ومن هذا المنطلق ينبغي على وزير المالية، في هذه المرحلة، أن يعقد اجتماعات مغلقة مع الوزراء الآخرين، يشرح فيها بوضوح حجم التحديات المالية التي تواجه الحكومة، والخطط المستقبلية المطلوبة للتغلب على هذه التحديات، لذلك يجب على الوزراء أن يتحملوا مسؤولياتهم، وألا يتركوا العبء المالي يقع فقط على عاتق وزارة المالية، وأي قرار يتم اتخاذه في أي وزارة يجب أن يدرس بعمق من حيث تأثيره على المالية العامة. ما يزيد من تعقيد الوضع هو التحديات الإقليمية الكبيرة التي تواجه الأردن، بما في ذلك تداعيات الحرب في المنطقة ككل، فهذه الحرب لا تُعرف نهايتها بعد، ولا يمكن التكهن بما ستؤول إليه، لكنها تضع ضغطا إضافيا على الاقتصاد الوطني، وتؤدي إلى تراجع الإيرادات وتفاقم المشكلات المالية، فالظروف الاستثنائية التي تمر بها المنطقة تجعل من المستحيل التعامل مع الأمور وكأنها في حالة استقرار، فالاضطرابات أثرت على قطاعات حيوية في المملكة مثل التجارة والسياحة والصناعة والإنتاج والاستثمار، الأمر الذي يتطلب سياسة مالية متوازنة ومتكاملة من جميع الوزارات. صندوق النقد الدولي يتابع عن كثب أداء الحكومة الأردنية، وتستمر هذه المراجعة حتى منتصف تشرين الأول 2024، لذلك يجب على الوزراء أن يدركوا أن الصندوق لا يقيّم أداء وزارة المالية وحدها، بل يقيم أداء الحكومة ككل، بمعنى ان أي تجاوز في إدارة المال العام من قبل أي وزارة سيكون له انعكاسات سلبية على نتائج المراجعة. الصندوق يطلب التزاما صارما بخطة الإصلاحات، ولا يقبل أي عذر يتعلق بتأجيل تنفيذ الإجراءات المطلوبة، ولربما يسمح الصندوق ببعض الاستثناءات الطفيفة نتيجة الظروف الطارئة، لكنه في النهاية سيطالب الحكومة بتقديم نتائج واضحة في خفض الدين وتحقيق الاستقرار المالي. هناك تحديات أخرى تواجه الاقتصاد الأردني تتعلق بتراجع الإيرادات الناتجة عن انخفاض المستوردات، نتيجة القرارات السابقة المتعلقة بإعادة هيكلة النظام الجمركي والتأخر باتخاذ اجراءات مالية لتعويض الخزينة مثل الضريبة الخاصة على المركبات الكهربائية وزيادتها أيضا على الدخان، كلها أدت إلى تراجع إضافي في العائدات الحكومية. النفقات الرأسمالية التي لا تقدم عائدا حقيقيا على الاقتصاد ولا تحقق القيمة المضافة يجب أن تكون أولى النقاط التي يتم مراجعتها، فكل دينار يتم إنفاقه يجب أن يكون له هدف محدد وعائد اقتصادي مباشر، وإلا فإن الاقتصاد الوطني سيظل يواجه المزيد من الأزمات المالية التي يصعب تجاوزها في المستقبل. ختاما، المسؤولية اليوم ليست فردية، وليست مقتصرة على وزارة المالية فقط، فكل وزارة مسؤولة عن إدارة نفقاتها وفقا لأهداف الإصلاح المالي، وصندوق النقد الدولي يتابع الموقف عن كثب، وكل تأخير أو تقصير في اتخاذ الإجراءات اللازمة سيكون له ثمن باهظ.
المالية العامة.. مسؤولية الجميع* سلامة الدرعاوي
6
المقالة السابقة