يشن دولة الاحتلال عملية عسكرية على جنوب لبنان، بدأتها بتفجيرات الأسبوع الماضي وانتقلت إلى الغارات المباشرة، في تطورات متلاحقة للأحداث، لا تنفصل عن تلك التي انفجرت قبل قرابة العام في غزة. يأتي ذلك في ظل زيارة بلينكن العاشرة إلى المنطقة خلال عام، وانعقاد اجتماعات الجمعية العامة السنوية، ليذكرنا ذلك بفشل أو تواطؤ الدبلوماسية الأميركية وعجز الأمم المتحدة ودول العالم في تحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. وقد توقعت تحليلات سابقة، أن مهاجمة لبنان هي مسألة وقت، بعد شن الاحتلال حربه الواسعة على غزة، وفي ظل جبهة الإسناد اللبنانية المفتوحة في الشمال. فرغم أن الاشتباك بين الاحتلال وحزب الله خلال العام الماضي كانت حدود تصعيده محسوبه، كي لا يصل إلى حرب، لم يخف نتنياهو هدفه باعاده مستوطني الشمال لأماكنهم. ولم يسع حزب الله لإشعال حرب، لذلك اكتفى بفتح جبهة إسناد محسوبة. ولم يكن في مصلحة نتنياهو خوض حرب مع لبنان خلال العام الماضي، في ظل حرب غزة المشتعلة، لذلك قبل بمعادلات الاشتباك في الشمال. ولكن أثبتت التطورات التي حدثت قبل أسبوع، أن نتنياهو كان يجهز منذ البداية للحظة الهجوم على لبنان. فهل ينجح نتنياهو بتحقق عودة مستوطني الشمال ضمن هجومه المحدود الحالي أم تتدحرج الأمور لحرب واسعة مع لبنان؟
في الأسبوع الماضي، وتحديداً يومي الثلاثاء والأربعاء منه، قام جهاز استخبارات الاحتلال بعملية تفجير واسعة شملت أجهزة اتصال لاسلكية يمتلكها أعضاء لحزب الله، أدت لمقتل العشرات واصابة الآلاف، مستهدفاً بذلك نظام التواصل بين أعضاء الحزب، لم يراع فيه أسلوب الحرص، الذي تتبعه حركة حماس في غزة. وردا على ذلك، ألقى حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله خطاب له في 19 سبتمبر الماضي، أكد فيه رفض الحزب التراجع في دعم جبهة غزة، معتبراً: “لا الاغتيالات، ولا الحرب الشاملة يمكن أن تعيد المستوطنين إلى الحدود”، في تحدٍ صريح ومباشر لتصريحات نتنياهو. وجاء في أعقاب ذلك، في اليوم التالي اغتيال قائد العمليات إبراهيم عقيل إلى جانب 14 من كبار قادة قوة الرضوان، في قلب العاصمة بيروت. وفي تطورات متزامنة، قررت حكومة نتنياهو يوم الاثنين الماضي، هدف جديد للحرب، بخلق الظروف المواتية لعودة مستوطني الشمال إلى أمكان تواجدهم السابق، فأطلق جيش الاحتلال حمله عسكرية على لبنان، أطلق عليها إسم “عملية السهام الشمالية”. أن تفجيرات أجهزة التواصل تؤكد أن إعلان الاحتلال للضغط على حزب الله وتوسيع الهجوم عليه مجهز ومحضر لها في السابق، وأن الخطوة التصعيد، لم تكن وليدة التطورات الميدانية. فهل هي حرب الاحتلال الثالثة على لبنان أم مجرد حمله؟
بعد محاولات من قبل الاحتلال لاستفزاز الحزب أكثر من مرة خلال العام الماضي، وتأكده من صدق نيته من عدم الرغبة بخوض حرب واسعه وانضباط وردود أفعاله، وضعت هجمات الاحتلال الأخيرة الحزب في موقف محرج، فعدم الرد المتناسب يحرجه، والرد المتناسب قد يفتح جبهة الحرب. ويبدو أن الاحتلال بعد أن أعلن نيته بخوض الحرب، شن هجوماته المباغتة القوية، للضغط على حزب الله للاستسلام. وتزامن ذلك مع العرض الذي قدمه آموس هوكشتاين، المبعوث الأميركي لشؤون الطاقة الدولية، بفصل جبهة لبنان عن غزة، وتنفيذ قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701، الذي نتج في أعقاب حرب عام 2006 بين الاحتلال وحزب الله، أي سحب الوجود العسكري لحزب الله إلى شمال نهر الليطاني، على بعد نحو 18 ميلاً من الحدود، والذي تعكس بدقة مطالب حكومة الاحتلال، حول عودة المستوطنين لمنطقة الحدود الشمالية. وسع الاحتلال من غاراته الجوية ضد جنوب لبنان، بهدف معلن يتمثل في تدمير البنية الأساسية لحزب الله. وضرب القصف الإسرائيلي العنيف في يوم 23 أيلول الجاري أكثر من ألف هدف، مخلفاً خلال يوم واحد مئات الشهداء وأكثر من ألف جريح، وهو ما يعادل حوالي نصف إجمالي عدد الضحايا في حرب 2006 التي استمرت 34 يوماً، في استحضار لهمجية الحرب في غزة، وفي تهديد لنصر الله بنتائج هذه الحرب، إن طالت. لايزال حتى الآن رد حزب الله عقلانياً محسوباً، يتجنب المدنيين، ويركز على الأهداف العسكرية، رغم تجاوزه للحدود الجغرافية لضرباته السابقة. فهل ستنفلت الأمور؟
رغم الدعوات لشن حرب شاملة، لم يتم اتخاذ قرار إسرائيلي بشن تلك الحرب أو الإقدام على غزو بري، لذلك أطلقوا عليها “الأسهم الشمالية”. وتفيد التقديرات أن شن إسرائيل لحرب شاملة على حزب الله، تصل في لحظة ما لتدخل بري، أمر غير واقعي في ظل الواقع على الأرض. فمن شأن قرار الذهاب لحرب واسعة أن يلحق ضرراً في بنية البلاد التحتية المدنية، خاصة إذا أطلق حزب الله صواريخه الأكثر تقدمًا. ويدرك المخططون العسكريون في جيش الاحتلال تمام الإدراك القدرات القتالية الأكثر تقدماً التي يتمتع بها حزب الله وترسانة الأسلحة المتطورة التي يمتلكها. وتقدر جهات متخصصة بقدرة حزب الله على إطلاق 2500 إلى 3000 هجوم صاروخي وقذائفي على إسرائيل يومياً لأسابيع. وتشير بعض التقديرات إلى أن ترسانة حزب الله من الصواريخ والقذائف والطائرات بدون طيار تبلغ 150 ألفًا على الأقل، أي عشرة أضعاف عدد الذخائر التي كانت لديه خلال حرب عام 2006، وهي تشمل ذخائر موجهة بدقة يمكن أن تهدد المواقع الاستراتيجية داخل إسرائيل، وتجهد قدرات الاحتلال الدفاعية، وخاصة عندما يتحول الاستهداف من المناطق العسكرية إلى المناطق المدنية. كما يعتقد خبراء أن شبكة حزب الله من الأنفاق تحت الأرض أكثر تطورًا من شبكة أنفاق حركة حماس في غزة، الأمر الذي سيرفع ثمن الحرب البرية، التي ستصبح ضرورية في حال توسعت الحرب.
ويعاني جيش الاحتلال من الإرهاق، بعد حوالي عام من القتال في غزة، وعمله على جبهتين إضافيتين في الضفة وجنوب لبنان. كما استنزف مخزون الذخائر، وتضرر الاقتصاد وتآكلت مكانه إسرائيل الدولية والإقليمية بشكل كبير. واعترف جيش الاحتلال بأنه يعاني من نقص في الدبابات، بعد أن تضررت منظومته في غزة. وأفادت تقارير إسرائيلية من جهات تقدم الدعم لجنود الاحتياط في جيش الاحتلال أن 10 آلاف جندي احتياطي طلبوا الدعم الصحي النفسي، وعددا كبيراً من جنود الاحتياطات لم يتمكنوا من الالتحاق بالخدمة بسبب الإرهاق، وهو الذي أصاب الجيش النظامي نفسه. وتم تسريح الآلاف من جنود الاحتياط من الوظائف المدنية، وأغلقت نحو 1000 شركة يديرها جنود احتياطيون. وتشير البيانات الإسرائيلية الرسمية أن اقتصاد دولة الاحتلال يشهد اليوم أشد تباطؤ بين البلدان الغنية، حيث انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4.1% منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ورغم نجاح الاحتلال في تحقيق عنصر المباغتة والمفاجأة في هجماته الأخيرة على الحزب، الا أنه من المبالغة الاعتقاد أن جيش الاحتلال الذي أنهكته الحرب واستنزفت قواه بعد عام من الحرب، سوف يعمل بأداء أفضل ضد حزب الله مقارنة بأدائه في مواجهة حركة حماس في غزة. وليس هناك جيش يرغب في فتح جبهة ثانية في ظل مستوياته المنخفضة من الاستعداد العملياتي.
أن حرب عام 2006 لم تؤد إلى القضاء على تهديد حزب الله، وكذلك لن تفعل أي حرب جديدة. ومن المرجح أن تجد إسرائيل نفسها في حرب استنزاف على جبهتها الشمالية بنفس التكلفة أو أكثر من تلك التي تكبدتها في الجنوب على جبهة غزة. وقد تضطر إسرائيل في النهاية للوصول لتفاهمات شبيهة بتلك التي توصلت اليها مع الحزب في العام 2006، ولم تنجح في إنهاء تهديد حزب الله، الا أن التفاهم اليوم قد يعني تجنب الموت والدمار وسفك الدماء على الجبهتين. وهو ما تحاول جهات عديدة في الوصول اليه حالياً. هل يمكن الذهاب لحرب؟ نعم يمكن، في ظل العوامل الإقليمية والدولية القائمة، التي شهدت على حرب الإبادة في غزة بصمت أو عجز أو تواطؤ، إلا أن الكرة الان في ملعب أطراف الصراع.