عقب نهاية الاستعمار، شهد العالم تحولات جذرية اعادت تشكيل النظام الدولي بشكل عميق. هذه التحولات، التي تزامنت مع ظهور دول جديدة وحركات تحررية، اوجدت مشهدا جيوسياسيا متجددا كان له تأثيرات هائلة على العلاقات الدولية وتوازن القوى. ففي خضم التغيرات الكبرى التي عصفت بالعالم بعد نهاية الاستعمار، برزت دول جديدة من رحم الامبراطوريات السابقة، مثل الهند وباكستان، واليابان والجزائر وامركا اللاتينية والدول الأفريقية. وواجهت تحديات هائلة في بناء هويتها الوطنية وتطوير استراتيجيتها الاقتصادية. كانت عملية الاستقلال بالنسبة لهذه الدول نقطة انطلاق نحو تحقيق الذات ولكنها ايضا فتحت الباب امام صراعات داخلية وخارجية.
تزامنت هذه المرحلة مع اعادة تشكيل التحالفات والنظم الدولية. فقد نشأت منظمات جديدة مثل الامم المتحدة ومنظمة عدم الانحياز، التي سعت الى تمثيل الدول المستقلة حديثا بشكل اكثر عدالة. هذه المنظمات لم تكن مجرد كتل سياسية بل كانت ايضا تجسيدا لتغيير عميق في النظام العالمي، حيث سعت الى تعزيز التعاون بين الدول الحديثة وإنشاء توازن جديد بين القوى الكبرى.
في إطار هذا التحول، ظهرت حركات تحررية قوية سعت الى تعزيز الهوية الثقافية والسياسية للدول الجديدة. من القومية الافريقية الى الاشتراكية القومية، كانت هذه الحركات تعبيرا عن رغبة عميقة في التميز والاستقلال وساهمت في تشكيل سياسات جديدة وعلاقات دولية تتسم بالقوة والصمود.
اليوم، نرى أن هذه التغيرات التاريخية تتكرر في سياق مختلف مع صعود قوى جديدة مثل الصين وروسيا. كما في فترة ما بعد الاستعمار، تعيد هذه القوى تشكيل النظام العالمي بطرق غير مسبوقة. إن ظهور الصين كقوة اقتصادية وعسكرية بارزة وعودة روسيا الى الساحة الدولية يعيد رسم التوازنات الجيوسياسية ويخلق تحديات جديدة على المستوى العالمي.
التحولات الجارية تشبه الى حد كبير تلك التي حدثت بعد نهاية الاستعمار. بروز قوى جديدة يعيد تشكيل النظام الدولي ويؤدي الى ظهور أيديولوجيات ومفاهيم ثقافية جديدة. في هذا السياق، يتطلب الامر فهما عميقا لكيفية تأثير هذه التحولات على النظام الدولي، وتقييم كيفية تعامل القوى العالمية الجديدة مع هذه التحديات.
إن دراستنا لتاريخ التغيرات الكبرى والبحث في كيفية تطور النظام العالمي يمكن ان يساعدنا في فهم المشهد الحالي والتنبؤ بالاتجاهات المستقبلية. من خلال هذا التحليل، يمكننا الحصول على رؤى قيمة حول كيفية تشكيل السياسات العالمية وتحقيق الاستقرار في عالم يمر بتغيرات مستمرة حيث تتكرر فيه الحركة التاريخية من خلال ضخه بطاقة استكشافية جديدة تقوم على المقارنة وعملية كشف للجوانب المطموسة فيه والمسكوت عنها تحت مبرر سلطة معرفية همشت ثقافات اخرى لتعيد استكتابها واستشكالها من جديد وفق معطيات وعناصر موضوعية مستجدة من خلال الاحتكام الى السلاسل والعلاقات داخل النسيج الوثائقي التي تكشف انجازات البشرية وحضارة الكلام واصوات المهمشين والمستبعدين التي تمثل النصف الاخر من تاريخ الحضارات الانسانية التي تحمل محمولات من الاشارات الدالة على هويات ومجالات جغرافية وسياسية تشكل فيه مجموع تاريخي بحسب تعبير رولان بارت في كتابه:» الدرجة الصفرية للكتابة»، للتدليل على ازمة ومأزق المنهجي في نقد وتأويل قوانين التاريخانية افق انسدادها في تفسير الظواهلر الانسانية وشروطها التاريخية من خلال الاستدلال بالموقف الاخلاقي واختبارا للاخلاق وللسياسة والذي مناط بتقدم الوعي الانساني وحركته المتجددة والمتفاعلة مع تأثيرات ذات جوانب عديدة اسهمت بتغيير نسق الحضارةوالمعرفة وتشكلها.
وبالتالي، إن رؤية صعود قوى جديدة مثل الصين وروسيا الذي يعيد تشكيل المشهد الدولي، فهو مشابهاً لما حدث بعد الاستعمار. الصين، على سبيل المثال، أصبحت قوة اقتصادية هائلة من خلال سعيها الى انشاء استثمارات ضخمة في التكنولوجيا والبنية التحتية، مما يعزز دورها كقطب رئيسي في النظام الدولي (المرجع: «The Rise of China and the Global Balance of Power» لكينيث وولتز). روسيا أيضاً، من خلال سياساتها العسكرية والتدخلات الجيوسياسية، تلعب دوراً مهماً في تشكيل السياسات العالمية (المرجع: «Russia and the New World Order» لميخائيل بوجدانوف).
كما أن تحولات ثقافية وأيديولوجية جديدة تظهر مع التقدم التكنولوجي وثورة المعلومات، حيث يتم نقل مركزية التحكم إلى أطراف جديدة مثل الصين. كالصراع بين الصين والولايات المتحدة حول ملفات التجارة والتكنولوجيا يعكس كيف أن النظام العالمي يتغير بشكل سريع. على سبيل المثال، التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين حول تقنية 5G تظهر كيف أن قوى جديدة تتحدى الهيمنة الأمريكية وتعيد صياغة سياسات التكنولوجيا العالمية (المرجع: «The Age of Surveillance Capitalism» لشوشانا زوبوف).
في ضوء هذه التحولات، يمكننا أن نستشف من كتاب جون لويس «إنهاء الاستعمار والتحرر منه»: رؤيته الاستشرافية لتطور النظام الدولي في ظل صعود القوى الجديدة. يتناول الكتاب كيفية تشكيل الدول الجديدة وتحديد الاتجاهات المستقبلية في سياق التغيرات العالمية الحالية (المرجع: «Decolonization and the Decolonized» لجون لويس).
بالختام، إن نشوء هذه الديناميات الجديدة يعيد رسم خارطة النظام العالمي وملامحه، مذكراً بمرحلة ما بعد الاستعمار التي أعادت تقييم الاستراتيجيات العالمية وتحالفاتها وموازينها الدولية. التغيرات الحالية تشير إلى إعادة تشكيل النظام الدولي بشكل يعكس تحديات وفرصاً جديدة مشابهة لتلك التي شهدناها بعد نهاية الاستعمار.
عصر التحولات: «دروس من تاريخ ما بعد الاستعمار لصعود القوى الجديدة في النظام العالمي؟»* اورنيلا سكر
8