يقف الطفل أحمد شمالي (6 أعوام) بجسده النحيل تحت أشعة الشمس الحارقة حاملاً قربتين من البلاستيك لتعبئة المياه.
يتمايل الطفل أحمد يميناً ويساراً في إشارة إلى الضجر الحاصل جراء الانتظار في طابور طويل لتعبئة المياه التي يحملها إلى أمه بعد استشهاد رب الأسرة قبل شهرين في شمال قطاع غزة.
آلاف الأطفال في غزة يعيشون هذه المأساة التي يعيشها أحمد؛ فبعد أن كانوا على مقاعد الدراسة كوضع طبيعي لأي طفل في العالم؛ وجدوا أنفسهم أمام جبال شاهقة من مسؤوليات صراع البقاء، بعد أن دمر جيش الاحتلال الإسرائيلي منظومة التعليم على كل الصعد، إذ تدمير وقصف المدارس والتي لم تسلم من هذا الاستهداف حتى بعد أن تحولت إلى مراكز إيواء للنازحين تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة.
واستمرار الحرب ودخولها الشهر الحادي عشر دون توقف يحرم طلاب غزة من عام دراسي آخر بدء منذ أيام.
وانطلق، الاثنين، العام الدراسي الجديد 2024/2025، في مدارس الضفة الغربية المحتلة، فيما حرمت الحرب حرب الإبادة المتواصلة على الفلسطينيين في قطاع غزة، طلبة المدارس والجامعات من الالتحاق بالعملية التعليمية، للسنة الثانية.
وفي القطاع المنكوب، حرم عدوان الاحتلال أكثر من 630 ألف طالب وطالبة من حقهم في التعليم منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يضاف إليهم أكثر من 58 ألفاً يُفترض أن يلتحقوا بالصف الأول في العام الدراسي الجديد، فضلا عن 39 ألفاً ممن لم يتقدموا لامتحان الثانوية العامة.
وخلفت الحرب على غزة أكثر من 25,000 طفل بين شهيد وجريح، منهم ما يزيد على 10,000 من طلبة المدارس، وسط تدمير 90% من مباني المدارس الحكومية البالغ عدد أبنيتها 307.
وتحولت غالبية المدارس التي تديرها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” (نحو 200 مدرسة) في قطاع غزة، إلى مراكز إيواء للنازحين، كما تعرضت 70% منها للقصف، إذ تم تدمير بعضها بالكامل، وتضررت أخرى بشكل كبير، وحسب أونروا فإن 4 من كل 5 مبانٍ مدرسية في غزة تعرضت لضربات مباشرة أو تضررت.
والنتيجة لما سبق، حرمان آلاف الطلاب في غزة من التمتع بأحد حقوقهم الأساسية ألا وهو التعليم؛ وبالتالي مصير مجهول ينتظر طموحاتهم التي حل محلها مهارة تعبئة المياه وجمع الحطب والتحول إلى باعة متجولين على بسطات بالية لا تحوي الكثير لكنها تبقى أفضل من لا شيء.
يقول الطفل شمالي “اشتقت لمدرستي ولأقلامي ولحقيبة ظهري ولأصدقائي الذين لا أعلم عنهم شيئا”.
ويضيف: “أنا الآن مسؤول عن توفير المياه لبيتي بعد أن استشهد والدي في قصف المدرسة التي نعيش فيها حالياً”.
ويتساءل “ما ذنبنا في أن نحرم من طفولتنا؟! لقد نسيت كل شيء تعلمته لدرجة أنني لا أستطيع حالياً مسك القلم ولا الكتابة”.
ويقول رائد كافي (من طلاب التوجيهي لهذا العام) “لقد تم تدميرنا نفسياً وجسدياً ومن كل النواحي بسبب هذه الحرب”.
ويضيف “كنت على أمل أن أنهي دراستي وأبدأ في تخطيط مستقبلي، لكن العكس هو ما حصل إذ لم يعد فينا طاقة للتعليم ولا للتفكير في المستقبل بعد أن دمر الاحتلال كل شيء في غزة”.
ويختم “لا أدري كيف سنعوض ما فاتنا وما هو مصيرنا، وهل نحن قادرون على التوجه أصلاً للتعليم في حال وقف الحرب فنحن بحاجة لتأهيل نفسي لا يقل عن فترة أشهر كي نبدأ في استيعاب ما حصل من أجل المضي قدماً”.
أما المدرسون فهم أيضاً في درجة كبيرة من التشاؤم حيال ما فعلته “آلة الموت الإسرائيلية” في غزة من تدمير ممنهج للمنظومة التعليمية ويرون أن الحلول موجودة لكنها صعبة جداً.
يقول رائد أبو قادوس مدرس فيزياء: “يحرم طلابنا من الدراسة للعام الثاني على التوالي فقد تشرد 90% من طلابنا في الشوارع ما بين جمع الحطب وتعبئة المياه وشحن البطارية عبر خلايا شمسية للإنارة”.
ويضيف “أصبح هم الطالب الآن هو كيفية توفير المياه والطعام له ولأسرته”.
ويتابع: “ننتظر وقف الحرب حتى نعود إلى الحياة العادية لكن من وجهة نظري حتى وإن انتهت الحرب فليس من السهل العودة إلى الجو الدراسي حيث التعليم سيكون داخل خيام؛ وهو جو غير مناسب بالمطلق للتعليم”.
أما فيما يتعلق بطلاب المرحلة الابتدائية الأساسية يقول “هؤلاء قد تدمروا بشكل كبير جداً لدرجة أنهم قد نسوا كيفية مسك القلم كما ونسوا الأرقام والحروف، وإذا ما استمرت الحرب فهذه الفئة معرضة للجهل”.
بدوره، يقول المدرس سامي كباجة (مدرس توجيهي) “للأسف دمر الاحتلال عاما دراسيا مضى، وها هو يدمر ويعطل عاما دراسيا جديدا، ورغم ذلك حاولنا التقدم بحلول بديلة للخروج من هذه المأساة ومنها توجه عدد كبير من طلاب التوجيهي إلى مصر للالتحاق بالعام الدراسي هناك”.
ويضيف: “ساعدنا هؤلاء الطلبة بتقديم ملازم ومذكرات عبر الإنترنت تعوض فترة الانقطاع عن التعليم سواء في الفرع العلمي أو الأدبي وتمت الأمور بنجاح”.
ويتابع “أرى أن هناك حلولا كثيرة لكنها تصطدم بأهم عامل ألا وهو العامل الرئيسي وهو العامل النفسي”.
ويعلق الطبيب النفسي مصطفى أبو راية، عن نفسية الطلاب بعد الحرب “البيوت التي كان يشعر فيها الطلاب بالأمان قد تدمرت ما هو مطروح سيكون خيمة وللأسف الخيمة مكان غير مناسب للدراسة حيث إن الطالب سيربط واقع الخيمة بما حصل لبيته أو لأسرته من تشريد”.
ويضيف: “حتى وإن تجاوزنا واقع الخيمة؛ فإن الحلول ستصطدم بالعامل النفسي لدى هؤلاء الطلاب الذين فقد منهم كل أفراد الأسرة”.
ويختم “أنصح أن يتم إعطاء الطالب فترة لا تقل عن عام كمرحلة انتقالية نحو التعليم بعد وقف الحرب”.