الانتخابات عموما تقوم على المشاركة، ترشيحا وانتخابا. حسن الاختيار لا يعني بالضرورة انتخاب الحسن أو الأحسن. قد تكون العملية -بعيدا عن الثرثرة أو الجعجعة- مجرد اختيار واقعيّ علقميّ بين السيئ والأقل سوءا، أو المفاضلة بين الحسن غير المؤثر أو غير القادر على الإنجاز، والبديل الأقل حسنا أو سوءا، لكن الأكثر قدرة على إحداث فارق، أو حتى مجرد تحريك الأمور وإخراجها من حالة الجمود أو الكمون. كثير من انتخابات هذه الأيام في أكثر من ساحة دولية قد تعني الخيار الأقل ضررا وإضرارا، أو الأوفر حظا بين تناقضات الأغلبية، كما جرى في عدد من الانتخابات الأوروبية منها الإيطالية والهولندية والفرنسية والبريطانية، وكما جرى ويجري في الانتخابات الأمريكية، رئاسية وبرلمانية (مجلسي الكونغرس الشيوخ والنواب) وعلى مستويات أخرى مهمة كحكام الولايات وعمدات المدن الكبرى.
حتى لغويا واصطلاحيا، ثمة فوارق تعكس ذلك الاختيار وذلك الانتخاب. يقوم الأمر أصلا على توفر البدائل أو الخيارات في حال تعذر على الناخبين تنظيم مصالحهم والدفع بمرشحيهم وفق آليات تضمن النجاح أو أقله تتيح لهم فرصة الوجود على الساحة. بعض القوانين الانتخابية في العالم أصعب من غيرها في المعايير المطلوبة للترشيح وكذلك تشكيل الجمعيات والأحزاب السياسية، فضلا عن دور جماعات الضغط ومراكز القوى الظاهرة والخفية، الناعمة والخشنة، في التعبير عما يسمى مصالح الدولة العميقة أو دولة المؤسسات، وبين ما يتبارى فيه ممثلو الأحزاب والأقطاب في عالم المال والمعلومات والتقنيات والشهرة في اللعبة الانتخابية التي لم ولن تخرج أبدا عن قواعد اللعبة السياسية، أو لعلها في حقيقة الأمر، الاقتصادية أو الأمنية أو العقائدية، كل حسب نظام الحكم فيه أو موقعه على الخارطة العالمية.
العبرة في القدرة على الوجود الإعلامي والثقافي البعيد عن الرسميات والأشكال الجامدة أو التقليدية التي عفا عليها الزمان، ومن ثم الانخراط في العمل السياسي، وله أدوات وأشكال ومستويات عدة، بعد ذلك بالإمكان التفكير أو الوعد والوعيد بحضور برلماني قوي، مؤثر ومستدام يكون قادرا على الاشتباك الإيجابي مع الذات قبل الآخر..
يشكو كثيرون -الهواة والمحترفون، الطارئون والمخضرمون- يشكون من أداء هذا المرشح أو ذاك، أو برنامج حزب معين، أو سياسات وتصريحات من هو في موقع السلطة أو خارجها، معارضا أو معتزلا أو مناكفا. لكن الحل الحقيقي كان وسيبقى في أيدي الناخبين ما دمنا نتحدث عن الديموقراطية ونراهن عليها. أو -وهو الأسلم والأضمن- الاستثمار في تلك القوى الناعمة التي من أهم وأخطر أدواتها الإعلام بجميع أشكاله، خاصة تلك المنابر والمنصات التي تضمن تدفق المعلومات والسرديات على نحو غير قابل للدحض أو التجاهل لأنه من النوع «الخارق الحارق المتفجر» كما قالت وتقول جميع نظيرات الصحافة والإعلام، بأن الكلمة كما الصوت كما الصورة وجميع المؤثرات الفنية-التقليدية والجديدة المعدة بقدرات الذكاء الاصطناعي الهائلة والمهولة- هذه الكلمة ما زالت كما الطلقة، إمّا صابت أو خابت. حتى هذه الأخيرة، لا يستهان بها، فبعض «العيار يدوش»!
التصويت ليس بالصوت! التصويت اختيارا أو انتخابا -في أي انتخابات كانت -قريبة أم بعيدة- ماكنة لها مقومات خاصة للقدح، التشغيل، الانطلاق والزخم.. في الاتجاه الذي تروم والوتيرة التي تريد.
الاختيار لا يعني انتخابا* بشار جرار
56
المقالة السابقة